فصل: تفسير الآية رقم (25)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَدَّ الله‏}‏ الخ رجوع إلى حكاية بقية القصة وتفصيل لتتمة النعمة المشار إليها إجمالاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ وهو معطوف على ‏{‏أَرْسَلْنَا‏}‏ وقد وسط بينهما بيان كون ما نزل بهم واقعة طامة تحيرت بها العقول والإفهام وداهية تحاكت فيها الركب وزلت الأقدام، وتفصيل ما صدر عن فريق أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال لاظهار عظم النعمة وإبانة خطرها الجليل ببيان وصولها إليهم عند غاية احتياجهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها ورددنا بذلك ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وءدخال الروعة، وجوز شيخ الإسلام ولعل صنيعه يشير إلى أولويته حيث بدأ به كونه معطوفاً فاعلى المقدر قبل‏:‏ ‏{‏لّيَجْزِىَ الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 24‏]‏ كأنه قيل إثر حكاية الأمور المذكورة وقع ما وقع من الحوادث ورد الله الذين كفروا وقيل هو معطوف من حيث المعنى على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِىَ‏}‏ كأنه قيل فكان عاقبة الذين صدقوا ما عاهدوا اللهعليه أن جزاهم الله تعالى بصدقهم وردأ عدائهم وهذا الرد من جملة جزائهم على صدقهم وهو كما ترى، والمراد بالذين كفروا الأحزاب على ما روي غير واحد عن مجاهد‏.‏ والظاهر أنه عني المشركين واليهود الذين تحزبوا‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى أنه فسر ذلك بأبي سفيان‏.‏ وأصحابه، ولعله الأولى، وعلى القولين المراد رد الله الذين كفروا من نحل اجتماعهم حول المدينة وتحزبهم إلى مساكنهم ‏{‏بِغَيْظِهِمْ‏}‏ حال من الموصول لا من ضمير ‏{‏كَفَرُواْ‏}‏ والباء للملابسة أي ملتبسين بغيظهم وهو أشد الغضب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً‏}‏ حال من ذاك أيضاً أو من ضمير ‏{‏بِغَيْظِهِمْ‏}‏ أي غير ظافرين بخير أصلاً، وفسر بعضهم الخير بالظفر بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإطلاق الخير عليه مبني على زعمهم، وفسره بعضهم بالمال كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 8‏]‏ والأولى أن يراد به كل خير عندهم فالنكرة في سياق النفي تعم، وجوز أن تكون الجملة مستأنفة لبيان سبب غيظهم أو بدلاً ‏{‏وَكَفَى الله المؤمنين القتال‏}‏ أي وقاهم سبحانه ذلك، و‏{‏كفى‏}‏ هذه تتعدى لاثنين، وقيل‏:‏ هي بمعنى أغنى وتتعدى إلى مفعول واحد‏.‏

والكلام هنا على الحذف والإيصال والأصل وكفى الله المؤمنين عن القتال أي أغناهم سبحانه عنه ولا وجه له وهذه الكفاية كانت كما أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن قتادة بالريح والملائكة عليهم السلام، وقيل‏:‏ بقتل على كرم الله تعالى وجهه عمرو بن عبدود‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ وابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف ‏{‏وَكَفَى الله المؤمنين القتال بَعْلِى‏}‏ وفي مجمع البيان هو المروى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ولا يكاد يصح ذلك، والظاهر ما روي عن قتادة لمكان قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ وكأن المراد بالقتال الذي كفاهم الله تعالى إياهم القتال على الوجه المعروف من تعبية الصفوف والرمي بالسهام والمقارعة بالسيوف أو القتال الذي يقتضيه ذلك التحزب والاجتماع بحكم العادة‏.‏

وفي البحر ما هو ظاهر في أن المراد كفى الله المؤمنين مداومة القتال وعودته فإن قريشاً هزموا بقوة الله تعالى وعزته عز وجل وما غزوا المسلمين بعد ذلك وإلا فقد وقع قتال في الجملة وقتل من المشركين على ما روي عن ابن اسحق ثلاثة نفر من بني عبد الدار بن قصى منبه بن عثمان بن عبيد ابن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة، ومن بنى مخزوم بن يقظة نوفل بن عبد الله بن المغيرة اقتحم الخندق فتورط فيه فقتل، ومن بنى عامر بن لؤي ثم من بنى مالك بن حسل عمرو بن عبد ود نازله علي كرم الله تعالى وجهه كما علمت فقتله‏.‏

وروي عن ابن شهاب أنه رضي الله تعالى عنه قتل يومئذ ابنه حسل أيضاً فيكون من قتل من المشركين أربعة واستشهد من المؤمنين بسبب ههذه الغزوة سعد بن معاذ وأنس بن أويس بن عتيك‏.‏ وعبد الله بن سهل وهم من بني عبد الأشهل‏.‏ والطفيل بن النعمان‏.‏ وثعلبة بن عثمة وهما من بني جشم بن الخزرج من بني سلمة‏.‏ وكعب بن زيد وهو من بني النجار ثم من بني دينار أصابه سهم غرب فقتله، قال ابن إسحق‏:‏ ولم يستشهد إلا هؤلاء الستة رضي الله تعالى عنهم ‏{‏وَكَانَ الله قَوِيّاً‏}‏ على إحداث كل ما يريد جل شأنه ‏{‏عَزِيزاً‏}‏ غالباً على كل شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم‏}‏ أي عاونوا الأحزاب المردودة ‏{‏مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ وهو بنو قريظة عند الجمهور، وعن الحسن أنهم بنو النضير وعلى الأول المعول ‏{‏مِن صَيَاصِيهِمْ‏}‏ أي من حصونهم جمع صيصية وهي كل ما يمتنع به ويقال لقرن الثور والظباء ولشوكة الديك التي في رجله الكقرن الصغير، وتطلق الصياصي على الشوك الذي للنساجين ويتخذ من حديد قاله أبو عبيدة وأنشد لدريد بن الصمة الجشمي‏:‏

نظرت إليه والرماح تنوشه *** كوقع الصياصي في النسيج الممدد

وتطلق على الأصول أيضاً قال‏:‏ أبو عبيدة إن العرب تقول‏:‏ جذ الله تعالى صئصئة أي أصله‏.‏

‏{‏وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب‏}‏ أي الخوف الشديد بحيث أسلموا أنفسهم للقتل وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً‏}‏ أي من غير أن يكون من جهتهم حراك فضلاً عن المخالفة والاستعصاء‏.‏ وفي البحر أن قدف الرعب سبب لإنزالهم ولكن قدم المسبب لما أن السرور بإنزالهم أكثرو الإخبار به أهم، وقدم مفعول ‏{‏تَقْتُلُونَ‏}‏ لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين وكان الاعتناء بحالهم أهم ولم يكن في المأسورين هذا الاعتناء بل الاعتناء هناك بالأسر أشد، ولو قيل‏:‏ وفريقاً تأسرون لربما ظن قبل سماع تأسرون أنه يقال بعد تهزمون‏:‏ أو نحو ذلك، وقيل‏:‏ قدم المفعول في الجملة الأولى لأن مساق الكلام لتفصيله وأخر في الثانية لمراعاة الفواصل، وقيل التقديم لذلك وأما التأخير فلئلا يفصل بين القتل وأخيه وهو الأسر فاصل، وقيل‏:‏ غوير بين الجملتين في النظم لتغاير حال الفريقين في الواقع فقد قدم أحدهما فقتل وأخر الآخر فأسر وقرأ ابن عامر والكسائي ‏{‏الرعب‏}‏ بضم العين وقرأ أبو حيوة ‏{‏تاسرون‏}‏ بضم السين، وقرأ اليماني ‏{‏ياسرون‏}‏ بياء الغيبة وقرأ ابن أنس عن ابن ذكوان بها فيه وفي يقتلون ولا يظهر لي وجه وجيه لتخصيص الاسم بصيغة الغيبة فتأمل، وتفصيل القصة على سبيل الاختصار أنه لما كانت صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب أو ظهر يوم تلك الليلة على ما في بعض الروايات وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى داخل المدينة أتي جبريل عليه السلام معتجراً بعمامة استبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند زينب بنت جحش تغسل رأسه الشريف وقد غسلت شقه فقال‏:‏ أوقد وضعت السلاح يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فقال‏:‏ عفا الله تعالى عنك ما وضعت الملائكة عليهم السلام السلاح بعد وما رجعت إلا الآن من طلب القوم وإن الله تعالى يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وإني عامد إليهم فمزلزل بهم حصونهم فأمر عليه الصلاة والسلام مؤذناً فاذن في الناس من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وقدم علي بن طالب كرم الله تعالى وجهه برايته إليهم وابتدرها الناس فسار كرم الله تعالى وجهه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقيه عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث قال‏:‏ لم‏؟‏ أظنك سمعت لي منهم أذى قال‏:‏ نعم يا رسول الله قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال‏:‏ يا اخوان القردة هل أخزاكم الله تعالى وأنزل بكم نقمته‏؟‏ قالوا‏:‏ يا أبا القاسم ما كنت جهولاً وفي رواية فحاشا وكان عليه الصلاة والسلام قد مر بنفر من أصحابه بالصورين قبل أن يصل إليهم فقال‏:‏ هل مر بكم أحد قالوا‏:‏ يا رسول الله قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ذلك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم ولما أتاهم صلى الله عليه وسلم نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم يقال لها بئر أنا وتلاحق الناس فأتى رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لآ يصلين أحد العصر إلا ببني قريظة وقد شغلهم ما لم يكن لهم منه بد في حربهم فلما أتوا صلوها بعد العشاء فما عابهم الله تعالى بذلك في كتابه ولا عنفهم رسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏

وحاصرهم صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين ليلة، وقيل‏:‏ إحدى وعشرين، وقيل‏:‏ خمس عشرة وجهدهم الحصار وخافوا أشد الخوف وقد كان حي بن أخطب دخل معهم في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما عاهده عليه فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال لهم كعب‏:‏ يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم قالوا‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم قالوا‏:‏ لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره قال فإذا أبيتم على هذه فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف لم نترك وراءنا ثقلاً حتى يحكم الله تعالى بيننا وبينهم فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلاً نخشى عليه وأن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء قالوا‏:‏ نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم قال‏:‏ فإن أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت وأنه عسى أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب منهم غرة قالوا‏:‏ نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ قال‏:‏ فما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف‏.‏

وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا فأرسله عليه الصلاة والسلام إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم وقالوا له‏:‏ يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ نعم وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح فعرف أنه قد خان الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فلم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب إلى المدينة وربط نفسه بجذع في المسجد حتى نزلت توبته رضي الله تعالى عنه ثم إنه عليه الصلاة والسلام ستنزلهم فتواثب الأوس فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وقد كانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه فسأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له فلما كلمته الأوس قال عليه الصلاة والسلام ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى قال فذاك إلى سعد بن معاذ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعله في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به صنيعة من المسلمين وقد كان رضي الله تعالى عنه قد أصيب يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم فأصاب أكحله فقطعه فدعا الله تعالى فقال‏:‏ اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من قريظة، وروي أن بني قريظة هم اختاروا النزول على حكم سعد ورضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأتاه قومه وهو في المسجد فحملوه على حمار وقد وطأوا له بوسادة من ادم وكان رجلاً جسيماً جميلاً ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون‏:‏ يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه قال‏:‏ لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعى إليهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام والمسلمين قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«قوموا إلى سيدكم» فأما المهاجرون من قريش فقالوا‏:‏ إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار وأما الأنصار فيقولون‏:‏ قد عم بها عليه الصلاة والسلام المسلمين فقاموا إليه فقالوا‏:‏ يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم فقال سعد‏:‏ عليكم عهد الله تعالى وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم قال‏:‏ وعلى من ههنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض برسول الله عليه الصلاة والسلام‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏.‏ نعم قال سعد‏:‏ فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبي الذراري والنساء فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحرث امرأة من بني النجار ثم خرج إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق يخرج إليهم بها إرسالاً وفيهم عدو الله تعالى حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمستكثر لهم يقول‏:‏ كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة وقد قالوا لكعب وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أرسالاً يا كعب ما تراه يصنع بنا‏؟‏ قال‏:‏ أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع ومن ذهب منكم لا يرجع هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى بحي بن أخطب عدو الله تعالى وعليه حلة تفاحية قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله تعالى يخذل ثم أقبل على الناس فقال‏:‏ أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله تعالى كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضربت عنقه فقال فيه جبل بن جدال التغلبي‏:‏

لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه *** ولكنه من يخذل الله يخذل لجاهد

حتى أبلغ النفس عذرها *** وقلقل يبغي العز كل مقلقل

وروي أن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه استوهب من رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن باطا القرظي لأنه من عليه في الجاهلية يوم بعاث فقال صلى الله عليه وسلم هو لك فأتاه فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك فهو لك قال‏:‏ شيخ كبير فما يصنع بالحياة ولا أهل له ولا ولد‏؟‏ فأتى ثابت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول الله امرأته وولده قال‏:‏ هم لك فأتاه فقال‏:‏ قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك وولدك فهم لك قال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فأتى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ ما له قال‏:‏ هو لك فأتاه فقال‏:‏ قد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك فهو لك فقال أي ثابت‏:‏ ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية يتمرأ فيها عذارى الحي كعب بن أسد‏؟‏ قال‏:‏ قتل قال‏:‏ فما فعل مقدمتها إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا عزال بن شموال‏؟‏ قال‏:‏ قتل قال‏:‏ فما فعل المجلسان‏؟‏ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة قال‏:‏ قتلوا قال‏:‏ فإني أسألك يا ثابت بيدي عندكم إلا ألحقتني بالقوم فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر لله تعالى قتلة ذكر ناصح حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه فلما بلغ أبا بكر رضي الله تعالى عنه قوله‏:‏ ألقى الأحبة قال‏:‏ يلقاهم والله في جهنم خالدين فيها مخلدين، واستوهبت سلمى بنت أقيس أم المنذر أخت سليط بن قيس وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلت معه القبلتين وبايعته مبايعة النساء رفاعة بن شموال القرظي وقالت‏:‏ بأبي أنت وأمي يا نبي الله هب لي رفاعة فإنه زعم أنه سيصل ويأكل لحم الجمل فوهبه عليه الصلاة والسلام لها فاستحيته‏.‏

وقتل منه كل من أنبت من الذكور، وأما النساء فلم يقتل منهم إلا امرأة يقال لها لبابة زوجة الحكم القرظي وكانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته‏.‏ أخرج ابن إسحاق عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت‏:‏ والله إن هذه الامرأة لعندي تحدث معي وتضحك ظهراً وبطناً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالها بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة قالت‏:‏ أنا والله قلت لها‏:‏ ويلك ما لك‏؟‏ قالت‏:‏ أقتل قلت‏:‏ ولم‏؟‏ قالت‏:‏ لحدث أحدثته فانطلق بها فضربت عنقها فكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول‏:‏ فوالله ما أنسى عجباً منها طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال، وأخرج منها الخمس وكان للفرس سهمان وللفارس سهم وللراجل الذي ليس له فرس سهم، وكانت الخيل في تلك الغزوة ستة وثلاثين فرساً وهو أول فيء وقعت فيه السهمان وأخرج منه الخمس على ما ذكر ابن إسحاق، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا القوم وكانت السبايا كلها على ما قيل سبعمائة وخمسين إلى نجد فابتاع بها لهم خيلاً وسلاحاً وكان عليه الصلاة والسلام قد اصطفى لنفسه الكريمة من نسائهم ريحانة بنت عمرو وكانت في ملكه صلى الله عليه وسلم حتى توفى، وقد كان عليه الصلاة والسلام عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت‏:‏ يا رسول الله بل تتركني في ملك فهو أخف على وعليك فتركها صلى الله عليه وسلم وكانت حين سباها قد أبت إلا اليهودية فعزلها عليه الصلاة والسلام ووجد في نفسه لذلك فبينما هو صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال‏:‏ إن هذا لنعلا ابن شعبة جاء يبشرني بإسلام ريحانة فجاءه فقال‏:‏ يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك من أمرها، وكان الفتح على ما في «البحر» في آخر ذي القعدة وهذه الغزوة وغزوة الخندق كانتا في سنة واحدة كما يدل عليه ما ذكرناه أول القصة وهو الصحيح خلافاً لمن قال‏:‏ إن كلاً منهما في سنة، ولما انقضى شأن بني قريظة انفجر لسعد رضي الله تعالى عنه جرحه فمات شهيداً، وقد استبشرت الملائكة عليهم السلام بروحه واهتز له العرش، وفي ذلك يقول رجل من الأنصار‏:‏

وما اهتز عرش الله من موت هالك *** سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو

واستشهد يوم بني قريظة على ما روي عن ابن إسحاق من المسلمين ثم من بني الحرث بن الخزرج خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو طرحت عليه رحا فشدخته شدخاً شديداً، وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن له لأجر شهيدين، ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان أخو بني أسد بن خزيمة ورسول الله عليه الصلاة والسلام محاصر بني قريظة فدفن في مقبرتهم التي يدفنون فيها اليوم وإليه دفنوا موتاهم في الإسلام، وتمام الكلام فيما وقع في هذه الغزوة في كتب السير، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ‏}‏ عطف على قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ الخ، والمراد بأرضهم مزارعهم، وقدمت لكثرة المنفعة بها من النخل والزروع‏.‏

وفي قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أورثكم‏}‏ إشعار بأنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين وأن ملكهم إياه ملك قوي ليس بعقد يقبل الفسخ أو الإقالة ‏{‏أَرْضَهُمْ وديارهم‏}‏ أي حصونهم ‏{‏وأموالهم‏}‏ نقودهم ومواشيهم وأثاثهم التي اشتملت عليها أرضهم وديارهم‏.‏ أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن قتادة من خبر طويل أن سعداً رضي الله تعالى عنه حكم كما حكم بقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم بأن أعقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقال قومه‏:‏ أتؤثر المهاجرين بالإعقار علينا‏؟‏ فقال‏:‏ إنكم ذوو أعقار وإن المهاجرين لا أعقار لهم، وأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه‏.‏

وفي «الكشاف» روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقالت الأنصار في ذلك فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إنكم في منازلكم، وقال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ أما تخمس كما خمست يوم بدر‏؟‏ قال‏:‏ لا إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس قال‏:‏ رضينا بما صنع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وذكر الجلال السيوطي أن الخبر رواه الواقدي من رواية خارجة بن زيد عن أم العلاء قالت‏:‏ لما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير جعل الحديث، ومن طريق المسور بن رفاعة قال‏:‏ فقال عمر يا رسول الله ألا تخمس ما أصيب من بني النضير الحديث اه، وعليه لا يحسن من الزمخشري ذكره ههنا مع أن الآيات عنده في شأن بني قريظة، وسيأتي الكلام فيما وقع لبني النضير في تفسير سورة الحشر إن شاء الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَرْضاً لَّمْ‏}‏ قال مقاتل، ويزيد بن رومان‏.‏ وابن زيد‏:‏ هي خيبر فتحت بعد بني قريظة، وقال قتادة‏:‏ كان يتحدث أنها مكة، وقال الحسن‏:‏ هي أرض الروم وفارس، وقيل‏:‏ اليمن، وقال عكرمة‏:‏ هي ما ظهر عليها المسلمون إلى يوم القيامة واختاره في «البحر»، وقال عروة‏:‏ لا أحسبها إلآ كل أرض فتحها الله تعالى على المسلمين أو هو عز وجل فاتحها إلى يوم القيامة، والظاهر أن العطف على ‏{‏وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ‏}‏ واستشكل بأن الإرث ماض حقيقة بالنسبة إلى المعطوف عليه ومجازاً بالنسبة إلى هذا المعطوف‏.‏ وأجيب بأنه يراد بأورثكم أورثكم في علمه وتقديره وذلك متحقق فيما وقع من الإرث كأرضهم وديارهم وأموالهم وفيما لم يقع بعد كارث ما لم يكن مفتوحاً وقت نزول الآية‏.‏ وقدر بعضهم أورثكم في جانب المعطوف مراداً به يورثكم إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع والدليل المذكور، واستبعد دلالة المذكور عليه لتخالفهما حقيقة ومجازاً‏.‏

وقيل‏:‏ الدليل ما بعد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله‏}‏ الخ، ثم إذا جعلت الأرض شاملة لما فتح على أيدي الحاضرين ولما فتح على أيدي غيرهم ممن جاء بعدهم لا يخص الخطاب الحاضرين كما لا يخفى‏.‏ ومن بدع التفاسير أنه أريد بهذه الأرض نساؤهم، وعليه لا يتوهم أشكال في العطف‏.‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏لَمْ‏}‏ بحذف الهمزة أبدل همزة تطأ ألفاً على حد قوله‏:‏

إن السباع لتهدي في مرابضها *** والناس لا يهتدي من شرهم أبداً

فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت كقولك لم تروها ‏{‏تَطَئُوهَا وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء قَدِيراً‏}‏ فهو سبحانه قادر على أن يملككم ما شاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏شَىْء قَدِيراً ياأيها النبى قُل لازواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة‏}‏ أي السعة والتنعم فيها ‏{‏وَزِينَتَهَا‏}‏ أي زخرفها وهو تخصيص بعد تعميم ‏{‏فَتَعَالَيْنَ‏}‏ أي أقبلن بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين كما يقال أقبل يخاصمني وذهب يكلمني وقام يهددني، واصل تعالى أمر بالصعود لمكان عال ثم غلب في الأمر بالمجىء مطلقاً والمراد به ههنا ما سمعت، وقال الراغب‏:‏ قال بعضهم إن أصله من العلو وهو ارتفاع المنزلة فكأنه دعاء إلى ما فيه رفعة كقولك‏:‏ افعل كذا غير صاغر تشريفاً للمقول له، وهذا المعنى غير مراد هنا كما لا يخفى ‏{‏أُمَتّعْكُنَّ‏}‏ أي اعطكن متعة الطلاق، والمتعة للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد واجبة عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه، ولسائر المطلقات مستحبة، وعن الزهري متعتان إحداهما يقضي بها السلطان ويجبر عليها من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها والثانية حق على المتقين من طلق بعدما فرض ودخل‏.‏ وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال‏:‏ متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره، وعن سعيد بن جبير المتعة حق مفروض، وعن الحسن لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة، والمتعة درع وحمار وملحفة على حسب السعة والإقتار إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك فيجب لها الأقل منهما ولا ينقص من خمسة دراهم لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها كذا في «الكشاف»، وتمام الكلام في الفروع، والفعل مجزوم على أنه جواب الأمر وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُسَرّحْكُنَّ‏}‏ وجوز أن يكون الجزم على أنه جواب الشرط ويكون ‏{‏فَتَعَالَيْنَ‏}‏ اعتراضاً بين الشرط وجزائه، والجملة الاعتراضية قد تقترن بالفاء كما في قوله‏:‏

واعلم فعلم المرء ينفعه *** أن سوف يأتي كل ما قدرا

وقرأ حميد الخراز ‏{‏أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ‏}‏ بالرفع على الاستئناف، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏أُمَتّعْكُنَّ‏}‏ بالتخفيف من أمتع، والتسريح في الأصل مطلق الإرسال ثم كني به عن الطلاق أي وأطلقكن ‏{‏سَرَاحاً‏}‏ أي طلاقاً ‏{‏جَمِيلاً‏}‏ أي ذا حسن كثير بأن يكون سنياً لا ضرار فيه كما في الطلاق البدعي المعروف عند الفقهاء‏.‏ وفي «مجمع البيان» تفسير السراح الجميل بالطلاق الخالي عن الخصومة والمشاجرة، وكان الظاهر تأخير التمتيع عن التسريح لما أنه مسبب عنه إلا أنه قدم عليه إيناساً لهن وقطعاً لمعاذيرهن من أول الأمر، وهو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3 4‏]‏ مروجه ولأنه مناسب لما قبله من الدنيا‏:‏ وجوز أن يكون في محله بناءً على أن إرادة الدنيا بمنزلة الطلاق والسراح الإخراج من البيوت فكأنه قيل‏:‏ إن أردتن الدنيا وطلقتن فتعالين أعطكن المتعة وأخرجكن من البيوت إخراجاً جميلاً بلا مشاجرة ولا إيذاء، ولا يخفى بعده وسبب نزول الآية على ما قيل‏:‏ إن أزواجه عليه الصلاة والسلام سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة‏.‏

وأخرج أحمد‏.‏ ومسلم‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر قال‏:‏ أقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه والناس ببابه جلوس والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت فقال عمر‏:‏ لأكلمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يضحك فقال‏:‏ يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد يعني امرأته رضي الله تعالى عنه سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بد ناجذه وقال‏:‏ هن حولي سألنني النفقة فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى عائشة ليضربها وقام عمر رضي الله تعالى عنه إلى حفصة كلاهما يقولان‏:‏ تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن نساؤه‏:‏ والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده‏.‏ وأنزل الله تعالى الخيار فبدأ بعائشة فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إني ذاكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت‏:‏ ما هو‏؟‏ فتلا عليها ‏{‏قَدِيراً ياأيها النبى قُل لازواجك‏}‏ الآية قالت عائشة‏:‏ أفيك أستأمر أبوي‏؟‏ بل اختار الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن الله تعالى لم يبعثني متعنتاً ولكن بعثني معلماً مبشراً لا تسألني امرأة منهن عما أخبرتني إلا أخبرتها، وفي خبر رواه ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن قتادة‏.‏ والحسن أنه لما نزلت آية التخيير كان تحته عليه الصلاة والسلام تسع نسوة خمس من قريش‏:‏ عائشة‏.‏ وحفصة‏.‏ وأم حبيبة بنت أبي سفيان‏.‏ وسودة بنت زمعة‏.‏ وأم سلمة بنت أبي أمية وكان تحته صفية بنت حي الخيبرية‏.‏ وميمونة بنت الحرث الهلالية‏.‏ وزينب بنت جحش الأسدية‏.‏ وجويرية بنت الحرث من بني المصطلق وبدأ بعائشة فلما اختارت الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة رؤى الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتابعن كلهن على ذلك فلما خيرهن واخترن الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام والدار الآخرة شكرهن الله جل شأنه على ذلك إذ قال سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏ فقصره الله تعالى عليهن وهن التسع اللاتي اخترن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأخرج ابن سعد عن عمرو بن سعيد عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم خير نساءه فاخترن جميعاً الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام غير العامرية اختارت قومها فكانت بعد تقول‏:‏ أنا الشقية وكانت تلقط البعر وتبيعه وتستأذن على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول‏:‏ أنا الشقية‏.‏

وأخرج أيضاً عن ابن جناح قال‏:‏ اخترنه جميعاً غير العامرية كانت ذاهبة العقل حتى ماتت‏.‏ وجاء في بعض الروايات عن ابن جبير غير الحميرية وهي العامرية، وكان هذا التخيير كما روي عن عائشة‏.‏ وأبي جعفر بعد أن هجرهن عليه الصلاة والسلام شهراً تسعة وعشرين يوماً‏.‏ وفي «البحر» أنه لما نصر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ورد عنه الأحزاب وفتح عليه النضير وقريظة ظن أزواجه عليه الصلاة والسلام أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن‏:‏ يا رسول الله بنات كسرى‏.‏ وقيصر في الحلى والحلل والإماء والخول ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق وآلمن قلبه الشريف عليه الصلاة والسلام بمطالبتهن له بتوسعة الحال وأن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأبناء الدنيا أزواجهم فأمره الله تعالى بأن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن؛ وما أحسن موقع هذه الآيات على هذا بعد انتهاء قصة الأحزاب وبني قريظة كما لا يخفى، ويفهم من كلام الإمام أنها متعلقة بأول السورة؛ وذلك أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلقه عز وجل فبدأ سبحانه بإرشاد حبيبه عليه الصلاة والسلام إلى ما يتعلق بجانب التعظيم له تعالى فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏مُّنتَظِرُونَ ياأيها النبى اتق الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ الخ ثم أرشده سبحانه إلى ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات لأنهن أولى الناس بذلك، وقدم سبحانه الشرطية المذكورة على قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ الخ لأن سبب النزول ما سمعت‏.‏

وقال الإمام‏:‏ إن التقديم إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم غير ملتفت إلى الدنيا ولذاتها غاية الالتفات، وذكر أن في وصف السراح بالجميل إشارة إلى ذلك أيضاً، ومعنى ‏{‏إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولُهُ‏}‏ إن كنتن تردن رسول الله وإنما ذكر الله عز وجل للإيذان بجلالة محله عليه الصلاة والسلام عنده تعالى‏:‏ ‏{‏والدار الاخرة‏}‏ أي نعيمها الباقي الذي لا قدر عنده للدنيا وما فيها ‏{‏فَإِنَّ الله أَعَدَّ‏}‏ أي هيأ ويسر ‏{‏للمحسنات مِنكُنَّ‏}‏ بمقابلة إحسانهن ‏{‏أَجْراً‏}‏ لا تحصى كثرته ‏{‏عَظِيماً‏}‏ لا تستقصى عظمته، و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبيين لأن كلهن كن محسنات‏.‏

وقيل‏:‏ ويجوز فيه التبعيض على أن المحسنات المختارات لله ورسوله صلى الله عليه وسلم واختيار الجميع لم يعلم وقت النزول، وهو على ما قال الخفاجي عليه الرحمة بعيد، وجواب ‏{‏ءانٍ‏}‏ في الظاهر ما قرن بالفاء إلا أنه قيل الماضي فيه بمعنى المضارع الدال على الاستقبال والتعبير به دونه لتحقق الوقوع، وقيل‏:‏ الجواب محذوف نحو تثبن أو تنلن خيراً وما ذكر دليله، وتجريد الشرطية الأولى عن الوعيد للمبالغة في تحقيق معنى التخيير والاحتراز عن شائبة الإكراه، قيل‏:‏ وهو السر في تقديم التمتيع على التسريح ووصف التسريح بالجميل‏.‏

هذا واختلف فيما وقع من التخيير هل كان تفويض الطلاق إليهن حتى يقع الطلاق بنفس الاختيار أولاً فذهب الحسن‏.‏ وقتادة وأكثر أهل العلم على ما في إرشاد العقل السليم وهو الظاهر إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق وإنما كان تخييراً لهن بين الإرادتين على أنهن إن أردن الدنيا فارقهن النبي صلى الله عليه وسلم كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 8 2‏]‏ وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضاً للطلاق إليهن حتى لو أنهن اخترن أنفسهن كان ذلك طلاقاً، وكذا اختلف في حكم التخيير بأن يقول الرجل لزوجته اختاري فتقول اخترت نفسي أو اختاري نفسك فتقول اخترت فعن زيد بن ثابت أنه يقع الطلاق الثلاث وبه أخذ مالك في المدخول بها وفي غيرها يقبل من الزوج دعوى الواحدة، وعن عمر‏.‏ وابن عباس‏.‏ وابن مسعود أنه يقع واحدة رجعية وهو قول عمر بن عبد العزيز‏.‏ وابن أبي ليلى‏.‏ وسفيان‏.‏ وبه أخذ الشافعي‏.‏ وأحمد‏.‏

وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه يقع واحدة بائنة، وروى ذلك الترمذي عن ابن مسعود، وأيضاً عن عمر رضي الله تعالى عنهما، وبذلك أخذ أبو حنيفة عليه الرحمة، فإن اختارت زوجها فعن زيد بن ثابت أنه تقع طلقة واحدة وعن علي كرم الله تعالى وجهه روايتان إحداهما أنه تقع واحدة رجعية والأخرى أنه لا يقع شيء أصلاً وعليه فقهاء الأمصار‏.‏

وذكر الطبرسي أن المروي عن أئمة أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين اختصاص التخيير بالنبي صلى الله عليه وسلم وأما غيره عليه الصلاة والسلام فلا يصح له ذلك‏.‏ واختلف في مدة ملك الزوجة الاختيار إذا قال لها الزوج ذلك فقيل‏:‏ تملكه ما دامت في المجلس وروي هذا عن عمر‏.‏ وعثمان‏.‏ وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم‏.‏ وبه قال جابر بن عبد الله‏.‏ وجابر بن زيد‏.‏ وعطاء‏.‏ ومجاهد‏.‏ والشعبي‏.‏ والنخعي‏.‏ ومالك‏.‏ وسفيان‏.‏ والأوزاعي‏.‏ وأبو حنيفة‏.‏ والشافعي‏.‏ وأبو ثور، وقيل‏:‏ تملكه في المجلس وفي غيره وهو قول الزهري‏.‏ وقتادة‏.‏ وأبي عبيدة‏.‏ وابن نصر وحكاه صاحب المغني عن علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏

وفي بلاغات محمد بن الحسن أنه كرم الله تعالى وجهه قائل بالاقتصار على المجلس كقول الجماعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وتمام الكلام في هذه المسألة وما لكل من هذه الأقوال وما عليه يطلب من كتب الفروع كشروح الهداية وما يتعلق بها بيد أني أقول‏:‏ كون ما في الآية هو المسألة المذكورة في الفروع التي وقع الاختلاف فيها مما لا يكاد يتسنى، وتأول الخفاجي استدلال من استدل بها في هذا المقام بما لا يخلو عن كلام عند ذوي الأفهام‏.‏ هذا وذكر الإمام في الكلام على تفسير هذه الآية عدة مسائل‏.‏ الأولى‏:‏ أن التخيير منه صلى الله عليه وسلم قولاً كان واجباً عليه عليه الصلاة والسلام بلا شك لأنه إبلاغ الرسالة، وأما معنى فكذلك على القول بأن الأمر للوجوب‏.‏ الثانية‏:‏ أنه لو أردن كلهن أو إحداهن الدنيا فالظاهر نظراً إلى منصب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجب عليه التمتيع والتسريح لأن الخلف في الوعد منه عليه الصلاة والسلام غير جائز‏.‏ الثالثة‏:‏ أن الظاهر أنه لا تحرم المختارة بعد البينونة على غيره عليه الصلاة والسلام وإلا لا يكون التخيير ممكناً من التمتع بزينة الدنيا‏.‏ الرابعة‏:‏ أن الظاهر أن من اختارت الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم نظراً إلى منصبه الشريف طلاقها والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏يَا نسَاء النبى‏}‏ تلوين للخطاب وتوجيه له إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن ونداؤهن ههنا وفيما بعد بالإضافة إليه عليه الصلاة والسلام لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام، واعتبار كونهن نساء في الموضعين أبلغ من اعتبار كونهن أزواجاً كما لا يخفى على المتأمل ‏{‏مَن يَأْتِ‏}‏ بالياء التحتية حملاً على لفظ ‏{‏مِنْ‏}‏، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما‏.‏ والجحدري‏.‏ وعمرو بن قائد الأسواري ويعقوب بالتاء الفوقية حملاً على معناها ‏{‏مِنكُنَّ بفاحشة‏}‏ بكبيرة ‏{‏مُّبَيّنَةٍ‏}‏ ظاهرة القبح من بين بمعنى تبين، وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو بكر مبينة بفتح الياء والمراد بها على ما قيل‏:‏ كل ما يقترف من الكبائر، وأخرج البيهقي في «السنن» عن مقاتل بن سليمان أنها العصيان للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ ذلك وطلبهن ما يشق عليه عليه الصلاة والسلام أو ما يضيق به ذرعه ويغتم صلى الله عليه وسلم لأجله‏.‏

ومنع في «البحر» أن يراد بها الزنا قال‏:‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من ارتكاب نسائه ذلك ولأنه وصفت الفاحشة بالتبين والزنا مما يتستر به ومقتضاه منع إرادة الأعم ثم قال‏:‏ وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته، ولا يخلو كلامه عن بحث والإمام فسرها به، وجعل الشرطية من قبيل ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏ من حيث أن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع جزماً فإن الأنبياء صان الله تعالى زوجاتهم عن ذلك، وقد تقدم بعض الكلام في هذه المسألة في سورة النور وسيأتي إن شاء الله تعالى طرف مما يتعلق بهما أيضاً ‏{‏يُضَاعَفْ لَهَا العذاب‏}‏ يوم القيامة على ما روي عن مقاتل أو فيه، وفي الدنيا على ما روي عن قتادة ‏{‏ضِعْفَيْنِ‏}‏ أي يعذبن ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه فإن مكث غيرهن ممن أتى بفاحشة مبينة في النار يوماً مثلاً مكثن هن لو أتين بمثل ما أتى يومين، وإن وجب على غيرهن حد لفاحشة وجب عليهن لو أتين بمثلها حدان، وقال أبو عمرو‏.‏ وأبو عبيدة فيما حكى الطبري عنهما الضعفان أن يجعل الواحدة ثلاثة فيكون عليهن ثلاثة حدود أو ثلاثة أمثال عذاب غيرهن، وليس بذاك، وسبب تضعيف العذاب أن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تابعة لزيادة فضل المذنب والنعمة عليه وتلك ظاهرة فيهن ولذلك جعل حد الحر ضعف حد الرقيق وعوتب الأنبياء عليهم السلام بما لا يعاتب به الأمم وكذا حال العالم بالنسبة إلى الجاهل فليس من يعلم كمن لا يعلم، وروي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه أنه قال له رجل‏:‏ إنكم أهل بيت مغفور لكم فغضب وقال‏:‏ نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أن نكون كما تقول إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ولمسيئتنا ضعفين من العذاب وقرأ هذه الآية والتي تليها، وقرأ الحسن‏.‏

وعيسى‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏يضاعف‏}‏ بالياء التحتية مبنياً للمفعول بلا ألف والجحدري‏.‏ وابن كثير‏.‏ وابن عامر ‏{‏نضعف‏}‏ بالنون مبنياً للفاعل بلا ألف أيضاً وزيد بن علي‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وخارجة عن أبي عمرو ‏{‏نضاعف‏}‏ بالنون والألف والبناء للفاعل وفرقة ‏{‏والله يضاعف‏}‏ بالياء والألف والبناء للفاعل، وقرأ ‏{‏العذاب‏}‏ بالرفع من قرأ بالبناء للمفعول وبالنصب من قرأ بالبناء للفاعل ‏{‏وَكَانَ ذلك‏}‏ أي تضعيف العذاب عليهن ‏{‏عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ أي سهلاً لا يمنعه جل شأنه عنه كونهن نساء النبي صلى الله عليه وسلم بل هو سبب له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31 - 32‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ‏}‏ أي ومن تخشع وتخضع ‏{‏للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ‏}‏ عملاً ‏{‏صالحا‏}‏ كصلاة وصوم وحج وإيتاء زكاة وهذا العمل غير القنوت لله تعالى على ما سمعت من تفسيره فلا تكرار، وفسره بعضهم بالطاعة ودفع التكرار بأن المراد ‏{‏وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ‏}‏ لرسول الله ‏{‏وَتَعْمَلْ صالحا‏}‏ لله تعالى، وذكر الله إنما هو لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بجعل طاعته غير منفكة عن طاعة الله عز وجل، وبعضهم بما ذكر أيضاً إلا أنه دفع التكرار بأن المراد بالعمل الصالح الخدمة الحسنة والقيام بمصالح البيت لا نحو الصلاة والصيام وبالطاعة المفسر بها القنوت امتثالاً الأوامر واجتناب النواهي، وفسره بعضهم بدوام الطاعة فقيل في دفع التكرار نحو ما مر، وقيل‏:‏ المراد به الدوام على الطاعة السابقة وبالعمل الصالح العبادات التي يكلفن بها بعد‏.‏

وقيل‏:‏ القنوت السكوت كما قيل ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8 23‏]‏ والمراد به ههنا السكوت عن طلب ما لم يأذن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لهن به من زيادة النفقة وثياب الزينة، وقيل غير ذلك‏.‏

‏{‏نُؤْتِهَا أَجْرَهَا‏}‏ الذي تستحقه على ذلك فضلاً وكرماً ‏{‏مَّرَّتَيْنِ‏}‏ فيكون أجرها مضاعفاً وهذا في مقابلة يضاعف لها العذاب ضعفين‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنه قال في حاصل معنى الآيتين‏:‏ إنه من عصى منكن فإنه يكون العذاب عليها الضعف منه على سائر نساء المؤمنين ومن عمل صالحاً فإن الأجر لها الضعف على سائر نساء المسلمين، ويستدعي هذا أنه إذا أثيب نساء المسلمين على الحسنة بعشر أمثالها اثبن هن على الحسنة بعشرين مثلاً لها وإن زيد للنساء على العشر شيء زيد لهن ضعفه، وكأنه والله تعالى أعلم إنما قيل ‏{‏نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ‏}‏ دون يضاعف لها الأجر كما قيل في المقابل ‏{‏يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 0 3‏]‏ لأن أصل تضعيف الأجر ليس من خواصهن بل كل من عمل صالحاً من النساء والرجال من هذه الأمة يضاعف أجره فأخرج الكلام مغايراً لما تقتضيه المقابلة رمزاً إلى أن تضعيف الأجر على طرز مغاير لطرز تضعيف العذاب مع تضمن الكلام المذكور الإشارة إلى مزيد تكريمهن ووفور الاعتناء بهن فإن الإحسان المكرر أحلى، ومن تأمل في الجملتين ظهر له تغليب جانب الرحمة على جانب الغضب وكفى بالتصريح بفاعل إيتاء الأجر وجعله ضمير العظمة والتعبير عما يؤتون من النعيم بالأجر مع إضافته إلى ضميرهن مع خلو جملة تضعيف العذاب عن مثل ذلك شهداء على ما ذكر، ثم إن تضعيف أجرهن لمزيد كرامتهن رضي الله تعالى عنهن على الله عز وجل مما من به عليهن من النسبة إلى خير البرية عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التحية، والظاهر أن ذلك ليس بالنسبة إلى أعمالهن الصالحة التي عملنها في حياتها صلى الله عليه وسلم فقط بل يضاعف أجرهن عليها وعلى الأعمال الصالحة التي يعلمنها بعد وفاته عليه الصلاة والسلام‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ إن هاتين المرتين إحداهما على الطاعة والأخرى على طلبهن رضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة، وجعل في «البحر» وغيره سبب التضعيف هذا الطلب وتلك الطاعة، ولا يخفى أن ما ذكروه موهم لعدم التضعيف بالنسبة لما فعلوه من العمل الصالح بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وقال بعض المدققين‏:‏ أراد من جعل سبب مضاعفة أجورهن ما ذكر التطبيق على لفظ الآية حيث جعل القنوت لله ولرسوله مع ما تلاه سبباً ويدمج فيه أن مضاعفة العذاب إنما نشأت من أن النشوز مع الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب ما يشق عليه ليس كالنشوز مع سائر الأزواج ولذلك اقتضى مضاعفة العذاب وكذلك طاعته وحسن التخلق معه والمعاشرة على عكس ذلك فهذا يؤكد ما قالوا من أن سبب تضعيف العذاب زيادة قبح الذنب منهن وفيه أن العكس يوجب العكس فتأمل‏.‏

وقال بعض المفسرين‏:‏ العذاب الذي توعد به ضعفين هو عذاب الدنيا ثم عذاب الآخرة وكذلك الأجر فالمرتان إحداهما في الدنيا وثانيتهما في الأخرى، ولا يخفى ضعفه‏.‏ وقرأ الجحدري‏.‏ والأسواري‏.‏ ويعقوب في رواية‏.‏ وكذا ابن عامر ‏{‏وَمِنْ‏}‏ بتاء التأنيث حملاً على المعنى‏.‏ وقرأ السلمي‏.‏ وابن وثاب‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي بياء من تحت في الأفعال الثلاثة على أن في ‏{‏يؤتها‏}‏ ضمير اسم الله تعالى، وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ ‏{‏وَمِنْ‏}‏ بالتاء من فوق حملاً على المعنى ‏{‏بالله وَيَعْمَلْ‏}‏ بالياء من تحت حملاً على اللفظ فقال بعض النحويين‏:‏ هذا ضعيف لأن التذكير أصلاً فلا يجعل تبعاً للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 9 13‏]‏ انتهى فتذكر ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لَهَا‏}‏ في الجنة زيادة على أجرها المضاعف ‏{‏رِزْقاً كَرِيماً‏}‏ عظيم القدر رفيع الخطر مرضياً لصاحبه، وقيل الرزق الكريم ما يسلم من كل آفة‏.‏

وجوز ابن عطية أن يكون في ذلك وعد دنياوي أي أن رزقها في الدنيا على الله تعالى وهو كريم من حيث هو حلال وقصد برضا من الله تعالى في نيله، وهو كما ترى ‏{‏يانساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء‏}‏ ذهب جمع من الرجال إلى أن المعنى ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء أي من نساء عصركن أي أن كل واحدة منكن أفضل من كل واحدة منهن لما امتازت بشرف الزوجية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمومة المؤمنين فأحد باق على كونه وصف مذكر إلا أن موصوفه محذوف ولا بد من اعتبار الحذف في جانب المشبه كما أشير إليه، وقال الزمخشري‏:‏ أحد في الأصول بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، وقد استعمل بمعنى المتعدد أيضاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 251‏]‏ لمكان ‏{‏بَيْنَ‏}‏ المقتضية للدخول على متعدد وحمل أحد على الجماعة على ما في «الكشف» ليطابق المشبه، والمعنى على تفضيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم على نساء غيره لا النظر إلى تفضيل واحدة على واحدة من آحاد النساء فإن ذلك ليس مقصوداً من هذا السياق ولا يعطيه ظاهر اللفظ‏.‏

وكون ذلك أبلغ لما يلزم عليه تفضيل جماعتهن على كل جماعة ولا يلزم ذلك تفضيل كل واحدة على كل واحدة من آحاد النساء لو سلم لكان إذا ساعده اللفظ والمقام، واعترضه أيضاً بعضهم بأنه يلزم عليه أن يكون كل واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من فاطمة رضي الله تعالى عنها مع أنه ليس كذلك‏.‏

وأجيب عن هذا بأنه لا مانع من التزامه إلا أنه يلتزم كون الأفضلية من حيث أمومة المؤمنين والزوجية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا من سائر الحيثيات فلا يضر فيه كون فاطمة رضي الله تعالى عنها أفضل من كل واحدة منهن لبعض الحيثيات الأخر بل هي من بعض الحيثيات كحيثية البضعية أفضل من كل من الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، نعم أورد على ما في «الكشاف» أن أحد الموضوع في النفي العام همزته أصلية غير منقلبة عن الواحد وقد نص على ذلك أبو علي، وخالف فيه الرضي فنقل عنه أن همزة أحد في كل مكان بدل من الواو، والمشهور التفرقة بين الواقع في النفي العام والواقع في الإثبات بأن همزة الأول أصلية وهمزة الثاني منقلبة عن الواو‏.‏ وفي العقد المنظوم في ألفاظ العموم للفاضل القرافي قد أشكل هذا على كثير من الفضلاء لأن اللفظين صورتهما واحدة ومعنى الوحدة يتناولهما والواو فيها أصلية فيلزم قطعاً انقلاب ألف أحد مطلقاً عنها وجعل ألف أحدهما منقلباً دون ألف الآخر حكم، وقد أطلعني الله تعالى على جوابه وهو أن أحد الذي لا يستعمل إلا في النفي معناه إنسان بإجماع أهل اللغة وأحد الذي يستعمل في الإثبات معناه الفرد من العدد فإذا تغاير مسماهما تغاير اشتقاقهما لأنه لا بد فيه من المناسبة بين اللفظ والمعنى ولا يكفي فيه أحدهما، فإذا كان المقصود به الإنسان فهو الذي لا يستعمل إلا في النفي وهمزته أصلية، وإن قصد به العدد ونصف الإثنين فهو الصالح للإثبات والنفي وألفه منقلبة عن واو اه، ولا يخفى أنه إذا سلم الفرق المذكور ينبغي أن تكون الهمزة هنا أصلية، وإلى أن همزة الواقع في النفي أصلية ذهب أبو حيان فقال‏:‏ إن ما ذكره الزمخشري من قوله‏:‏ ثم وضع في النفي العام الخ غير صحيح لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن واحداً ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل وذكر النحويون أن مادته همزة وحال ودال ومادة أحد بمعنى واحد أصله واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولاً‏.‏

وذكر أن ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5 28‏]‏ يحتمل أن يكون الذي للنفي العام ويحتمل أن يكون بمعنى واحد، ويكون قد حذف معطوف أي بين واحد وواحد من رسله كما قال الشاعر‏:‏

فما كان بين الخير لو جاء سالما *** أبو حجر إلا ليال قلائل

وقال الراغب‏:‏ أحد يستعمل على ضربين في النفي لاستغراق جنس الناطقين، ويتناول القليل والكثير على الاجتماع والانفراد نحو ما في الدار أحد أي لا واحد ولا إثنان فصاعداً لا مجتمعين ولا مفترقين، وهذا المعنى لا يمكن في الإثبات لأن نفي المتضادين يصح، ولا يصح إثباتهما، فلو قيل في الدار أحد لكان إثبات أحد منفرد مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين ومتفرقين وهو بين الإحالة ولتناوله ما فوق الواحد صح نحو ‏{‏فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 7 4‏]‏ وفي الإثبات على ثلاثة أوجه، استعماله في الواحد المضموم إلى العشرات كأحد عشر وأحد وعشرين، واستعماله مضافاً أو مضافاً إليه بمعنى الأول نحو ‏{‏أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 1 4‏]‏ وقولهم يوم الأحد، واستعماله وصفاً وهذا لا يصح إلا في وصفه تعالى شأنه، أما أصله أعني وحد فقد يستعمل في غيره سبحانه كقول النابغة‏:‏

كأن رحلي وقد زال النهار بنا *** بذي الجليل على مستأنس وحد

انتهى‏.‏

وهو محتمل لدعوى انقلاب همزته عن واو مطلقاً ولدعوى انقلابها عنها في الاستعمال الأخير‏.‏

ولا يخفى على المنصف أن يكون المعنى في الآية ما ذكره الزمخشري أظهر، وتفضيل كل واحدة من نسائه صلى الله عليه وسلم على كل واحدة واحدة من سائر النساء لا يلزم أن يكون لهذه الآية بل هو لدليل آخر إما عقلي أو نص مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏ وقيل يجوز أن يكون ذلك لها فإنها تفيد بحسب عرف الاستعمال تفضيل كل منهن على سائر النساء لأن فضل الجماعة على الجماعة يكون غالباً لفضل كل منها‏.‏

‏{‏إِنِ اتقيتن‏}‏ شرط لنفي المثلية وفضلهن على النساء وجوابه محذوف دل عليه المذكور والاتقاء بمعناه المعروف في لسان الشرع، والمفعول محذوف أي إن اتقيتن مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، والمراد إن دمتن على اتقاء ذلك ومثله شائع أو هو على ظاهره والمراد به التهييج بجعل طلب الدنيا والميل إلى ما تميل إليه النساء لبعده من مقامهن بمنزلة الخروج من التقوى أو شرط جوابه قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول‏}‏ والاتقاء بمعناه الشرعي أيضاً، وفي «البحر» أنه بمعنى الاستقبال أي إن استقبلتن أحداً فلا تخضعن، وهو بهذا المعنى معروف في اللغة قال النابغة‏:‏

سقط النصيف ولم ترد إسفاطه *** فتناولته واتقتنا باليد

أي استقبلتنا باليد، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن إذ لم يعلق فضلهن على التقوى ولا علق نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات لله تعالى في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى، وفيه إن اتقى بمعنى استقبل وإن كان صحيحاً لغة، وقد ورد في القرآن كثيراً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 4 2‏]‏ إلا أنه لا يتأتى ههنا لأنه لا يستعمل في ذلك المعنى إلا مع المتعلق الذي تحصل به الوقاية، كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِوَجْهِهِ‏}‏ وقول النابغة باليد وما استدل به أمره سهل، وظاهر عبارة الكشاف اختيار كون ‏{‏إِنِ اتقيتن‏}‏ شرطاً جوابه فلا تخضعن، وفسر ‏{‏إِنِ اتقيتن‏}‏ بأن أردتن التقوى وإن كنتن متقيات مشيراً بذلك إلى أنه لا بد من تجوز في الكلام لأن الواقع أن المخاطبات متقيات فأما أن يكون المقصود الأولى المبالغة في النهي فيفسر بأن أردتن التقوى، وإما أن يكون المقصود التهييج والإلهاب، فيفسر بأن كنتن متقيات فليس في ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز كما توهم، وقد قرر ذلك في الكشف، ومعنى لا تخضعن بالقول لا تجبن بقولكن خاضعاً أي لينا خنثا على سنن كلام المريبات والمومسات، وحاصله لا تلن الكلام ولا ترققنه، وهذا على ما قيل في غير مخاطبة الزوج ونحوه كمخاطبة الأجانب وإن كن محرمات عليهم على التأبيد‏.‏

روى عن بعض أمهات المؤمنين أنها كانت تضع يدها على فمها إذا كلمت أجنبياً تغير صوتها بذلك خوفاً من أن يسمع رخيماً ليناً، وعد إغلاظ القول لغير الزوج من جملة محاسن خصال النساء جاهلية وإسلاماً، كما عد منها بخلهن بالمال وجبنهن، وما وقع في الشعر من مدح العشيقة برخامة الصوت وحسن الحديث ولين الكلام فمن باب السفه كما لا يخفى‏.‏ وعن الحسن أن المعنى لا تكلمن بالرفث، وهو كما ترى ‏{‏فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ أي فجور وزنا، وبذلك فسره ابن عباس وأنشد قول الأعشى‏:‏

حافظ للفرج راض بالتقى *** ليس ممن قلبه فيه مرض

والمراد نية أو شهوة فجور وزنا، وعن قتادة تفسيره بالنفاق، وأخرج ابن المنذر‏.‏

وابن أبي حاتم عن زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما، أنه قال‏:‏ المرض مرضان فمرض زنا ومرض نفاق، ونصب ‏{‏يَطْمَعُ‏}‏ في جواب النهي‏.‏ وقرأ أبان بن عثمان‏.‏ وابن هرمز ‏{‏فَيَطْمَعَ‏}‏ بالجزم وكسر العين لالتقاء الساكنين وهو عطف على محل فعل النهي على أنه نهي لمريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول كأنه قيل؛ فلا تخضعن بالقول فلا يطمع الذي في قلبه مرض، وقال أبو عمرو الداني؛ قرأ الأعرج‏.‏ وعيسى ‏{‏فَيَطْمَعَ‏}‏ بفتح الياء وكسر الميم، ونقلها ابن خالويه عن أبي السمال‏.‏ قال‏:‏ وقد روى ذلك عن ابن محيصن، وذكر أن الأعرج وهو ابن هرمز قرأ ‏{‏فَيَطْمَعَ‏}‏ بضم الياء وفتح العين وكسر الميم أي فيطمع هو أي الخضوع بالقول، و‏{‏الذى‏}‏ مفعول أو الذي فاعل والمفعول محذوف أي فيطمع الذي في قلبه مرض نفسه ‏{‏وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏ حسناً بعيداً عن الريبة غير مطمع لأحد، وقال الكلبي‏:‏ أي صحيحاً بلا هجر ولا تمريض، وقال الضحاك‏:‏ عنيفاً، وقيل‏:‏ أي قولاً أذن لكم فيه، وقيل‏:‏ ذكر الله تعالى وما يحتاج إليه من الكلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ‏}‏ من قريقر من باب علم أصله اقررن فحذفت الراء الأولى وألقيت فتحتها على ما قبلها وحذفت الهمزة للاستغناء عنها بتحرك القاف‏.‏

وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان وجهاً آخر قال‏:‏ قاريقار إذا اجتمع ومنه القارة لاجتماعها، ألا ترى إلى قول عضل والديش‏:‏ اجتمعوا فكونوا قارة فالمعنى وأجمعن أنفسكن في البيوت‏.‏

وقرأ الأكثر ‏{‏وَقَرْنَ‏}‏ بكسر القاف من وقريقر وقار إذا سكن وثبت، وأصله أو قرن ففعل به ما فعل بعدن من وعد أو من قريقر المضاعف من باب ضرب وأصله اقررن حذفت الراء الأولى وألقيت كسرتها إلى القاف وحذفت الهمزة للاستغناء عنها، وقال مكي‏.‏ وأبو علي‏:‏ أبدلت الراء التي هي عين الفعل ياء كراهة التضعيف ثم نقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت لسكونها وسكون الراء بعدها وسقطت الهمزة لتحرك القاف‏.‏ وهذا غاية في التمحل، وفي البحران قررت وقررت بالفتح والكسر كلاهما من القرار في المكان بمعنى الثبوت فيه وقد حكى ذلك أبو عبيدة‏.‏ والزجاج‏.‏ وغيرهما، وأنكر قوم منهم المازني مجيء قررت في المكان بالكسر أقر بالفتح وإنما جاء قررت عينه تقر بالكسر في الماضي والفتح في المضارع والمثبت مقدم على النافي‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏واقررن‏}‏ بألف الوصل وكسر الراء الأولى، والمراد على جميع القراءات أمرهن رضي الله تعالى عنهن بملازمة البيوت وهو أمر مطلوب من سائر النساء‏.‏ أخرج الترمذي‏.‏ والبزار عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن المرإة عور فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها»

وأخرج البزار عن أنس قال جئن النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن‏:‏ يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فهل لنا عمل ندرك به فضل المجاهدين في سبيل الله تعالى فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى» وقد يحرم عليهن الخروج بل قد يكون كبيرة كخروجهن لزيارة القبور إذا عظمت مفسدته وخروجهن ولو إلى المسجد وقد استعطرن وتزين إذا تحققت الفتنة أما إذا طنت فهو حرام غير كبيرة، وما يجوز من الخروج كالخروج للحج وزيادة الوالدين وعيادة المرضى، وتعزية الأموات من الأقارب ونحو ذلك، فإنما يجوز بشروط مذكورة في محلها‏.‏

وظاهر إضافة البيوت إلى ضمير النساء المطهرات أنها كانت ملكهن وقد صرح بذلك الحافظ غلام محمد الأسلمي نور الله تعالى ضريحه في التحفة الإثني عشرية، وذكر فيها أن عليه الصلاة والسلام بنى كل حجرة لمن سكن فيها من الأزواج وكانت كل واحد منهن تتصرف بالحجرة الساكنة هي فيها تصرف المال في ملكه بحضوره صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الفقهاء أن من بنى بيتاً لزوجته وأقبضه إياها كان كمن وهب زوجته بيتاً وسلمه إليها، فيكون البيت ملكاً لها ويشهد لدعوى أن الحجرة التي كانت تسكنها عائشة رضي الله تعالى عنها كانت ملكاً لها غير الإضافة في ‏{‏فِى بُيُوتِكُنَّ‏}‏ الداخل فيه حجرتها استئذان عمر رضي الله تعالى عنه لدفنه فيها منها بمحضر من الصحابة، وعدم إنكار أحد منهم حتى علي كرم الله تعالى وجهه، واستئذان الحسن رضي الله تعالى عنه منها لذلك أيضاً الثابت عند أهل السنة والشيعة، كما ذكر في الفصول المهمة في معرفة الأئمة وغيره من كتبهم فإن تلك الحجرة لو كانت لبيت المال لحديث

«نحن معاشر الأنبياء لا نورث» لاستأذن رضي الله تعالى عنه من الوزغ مروان فإنه إذ ذاك كان حاكم المدينة المنورة والمتصرف في بيت المال، ولو كانت للورثة بناء على زعم الشيعة من أنه صلى الله عليه وسلم يورث كغيره لزم الاستئذان من سائر الأزواج أيضاً لتعلق حقهن فيها على زعمهم بل يلزم الاستئذان أيضاً من عصبته عليه الصلاة والسلام المستحقين لما يبقى بعد النصف والثمن إذا قلنا بتوريثهم فحيث لم يستأذن رضي الله تعالى عنه إلا منها علم أنها ملكها وحدها‏.‏

والقول بأنه علم رضا الجميع سواها رضي الله تعالى عنها فاستأذنها لذلك مما لا يقوم لهم حجة، ولهم في هذا الباب أكاذيب لا يعول عليها ولا يلتفت أريب إليها، منها أن عائشة رضي الله تعالى عنه أذنت للحسن رضي الله تعالى عنه حين استأذنها في الدفن في الحجرة المباركة، ثم ندمت بعد وفاته رضي الله تعالى عنه وركبت على بغلة لها وأتت المسجد ومنعت الدفن ورمت السهام على جنازته الشريفة الظاهرة وادعت الميراث‏.‏

وأنشأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول‏:‏

تجملت تبلغت *** وإن عشت تفيلت لك التسع من الثمن فكيف الكل ملكت

وركاكة هذ الشعر تنادي بكذب نسبته إلى ذلك الحبر رضي الله تعالى عنه، وليت شعري أي حاجة لها إلى الركوب ومسكنها كان تلك الحجرة المباركة لا فلو كانت بصدد المنع لأغلقت بابها ثم إنها رضي الله تعالى عنها كيف يظن بها ولها من العقل الحظ الأوفر بالنسبة إلى سائر أخواتها أمهات المؤمنين تدعي الميراث وهي وأبوها رضي الله تعالى عنهما رويا بمحضر الصحابة الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» هذا، ويجوز أن تكون إضافة البيوت إلى ضمير النساء المطهرات باعتبار أنهن ساكنات فيها قائمات بمصالحها قيمات عليها، واستعمال الخاصة والعامة شائع بإضافة البيوت إلى الأزواج بهذا الاعتبار‏.‏

والاستئذان يجوز أن يكون لانتقال كل بيت إلى ملك الساكنة فيه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من جهة الخليفة ولي بيت المال لما رأى من المصلحة في تخصيص كل منهن بمسكنه وتركه لها على نحو الإقطاع من بيت المال، ومما يستأنس به لكون الإضافة إلى ضميرهن بهذا الاعتبار لا لكون البيوت ملكهن إضافة البيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما أثر، بل سيأتي إن شاء الله تعالى إضافة البيوت إليه عليه الصلاة والسلام وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 3 5‏]‏ الآية وهي أحق بأن تكون للملك فليراجع هذا المطلب وليتأمل ‏{‏وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الاولى‏}‏ التبرج على ما روى عن مجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن أبي نجيح المشي بتبختر وتكسر وتغنج، وعن مقاتل أن تلقى المرأة خمارها على رأسها ولا تشده فيوارى قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها، وقال المبرد‏:‏ أن تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره، قال الليث‏:‏ ويقال تبرجت المرأة إذا أبدت محاسنها من وجهها وجسدها ويرى مع ذلك من عينها حسن نظرت، وقال أبو عبيدة‏:‏ أن تخرج من محاسنها ما تستدعي به شهوة للرجال، وأصله على ما في «البحر» من البرج وهو سعة العين وحسنها، ويقال طعنة برجاء أي واسعة وفي أسنانه برج إذا تفرق ما بينها وقيل‏:‏ هو البرج بمعنى القصر، ومعنى تبرجت المرأة ظهرت من برجها أي قصرها، وجعل الراغب إطلاق البرج على سعة العين وحسنها للتشبيه بالبرج في الأمرين، ولا يخفى أنه لو فسر التبرج هنا بالظهور من البرج تكون هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها فالأولى أن يفسر به، وتبرج مصدر تشبيهي مثل له صوت صوت حمار أي لا تبرجن مثل تبرج الجاهلية الأولى، وقيل في الكلام إضمار مضافين أي تبرج نساء أيام الجاهلية، وإضافة نساء على معنى في والمراد بالجاهلية الأولى على ما أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي جاتم‏.‏ والحاكم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس الجاهلية مابين نوح وإدريس عليهما السلام وكانت ألف سنة، قال‏:‏ وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبال، وكان رجال الجبال صباحاً وفي النساء دمامة وكان نساء السهل ورجاله على العكس فاتخذ أهل السهل عيداً يجتمعون إليه في السنة، فتبرج النساء للرجال والرجال لهن، وأن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهن فنزلوا معهن فظهرت الفاحشة فيهن، وفي رواية أن المرأة إذ ذاك تجمع بين زوج وعشيق‏.‏

وأخرج ابن جرير عن الحكم بن عيينة قال‏:‏ كان بين آدم ونوح عليهما السلام ثمانمائة سنة فكان نساؤهم من أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان وكانت المرأة تراود الرجل عن نفسه وهي الجاهلية الأولى‏.‏‏.‏

وروى مثله عن عكرمة، وقال الكلبي‏:‏ هي ما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام، وقال مقاتل‏:‏ كانت زمن نمروذ وكان فيه بغايا يلبسن أرق الدروع ويمشين في الطرق، وروى عنه أيضاً أن الجاهلية الأولى زمن إبراهيم عليه السلام والثانية زمن محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، وقال أبو العالية‏:‏ كانت الأولى زمن داود وسليمان عليهما السلام وكان للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين يظهر منه الأعكان والسوأتان‏.‏

وقال المبرد‏:‏ كانت المرأة تجمع بين زوجها وخدنها للزوج نصفها الأسفل وللخدن نصفها الأعلى يتمتع به في التقبيل والترشف، وقيل‏:‏ ما بين موسى وعيسى عليهما السلام، وقال الشعبي‏:‏ ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام‏.‏

قال الزجاج‏:‏ وهو الأشبه لأنهم هم الجاهلية المعروفة كانوا يتخذون البغايا، وإنما قيل‏:‏ ‏{‏الاولى‏}‏ لأنه يقال لكل متقدم ومتقدمة أول وأولى، وتأويله أنهم تقدموا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروى عن ابن عباس ما هو نص في أن الأولى هنا مقابل الأخرى، وقال الزمخشري‏:‏ يجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام فكأن المعنى ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ الذي يظهر عندي أن الجاهلية الأولى إشارة إلى الجاهلية التي تخصهن فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر وقلة الغيرة ونحو ذلك‏.‏ وفي حديث أخرجه الشيخان وأبو داود‏.‏ والترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر وكان قد عير رجلاً أمه أعجمية فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، وفسرها ابن الأثير بالحالة التي عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر وغير ذلك والله تعالى أعلم، وتمسك الرافضة في طعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وحاشاها من كل طعن بخروجها من المدينة إلى مكة ومنها إلى البصرة وهناك وقعت وقعة الجمل بهذه الآية قالوا‏:‏ إن الله تعالى أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وهي منهن بالسكون في البيوت ونهاهن عن الخروج وهي بذلك قد خالفت أمر الله تعالى ونهيه عز وجل‏.‏ وأجيب بأن الأمر بالاستقرار في البيوت والنهي عن الخروج ليس مطلقاً وإلا لما أخرجهن صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية للحج والعمرة ولما ذهب بهن في الغزوات ولما رخصهن لزيارة الوالدين وعيادة المرض وتعزية الأقارب وقد وقع كل ذلك كما تشهد به الأخبار، وقد صح أنهن كلهن كن يحججن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سودة بنت زمعة، وفي رواية عن أحمد عن أبي هريرة إلا زينب بنت جحش‏.‏

وسودة ولم ينكر عليهن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم الأمير كرم الله تعالى وجهه وغيره، وقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال لهن بعد نزول الآية‏:‏ ‏{‏أَذِنَ لَكِنِ ءانٍ‏}‏ فعلم أن المراد الأمر بالاستقرار الذي يحصل به وقارهن وامتيازهن على سائر النساء بأن يلازمن البيوت في أغلب أوقاتهن ولا يكن خراجات ولاجات طوافات في الطرق والأسواق وبيوت الناس، وهذا لا ينافي خروجهن للحج أو لما فيه مصلحة دينية مع التستر وعدم الابتذال، وعائشة رضي الله تعالى عنها، إنما خرجت من بيتها إلى مكة للحج وخرجت معها لذلك أيضاً أم سلمة رضي الله تعالى عنها وهي وكذا صفية مقبولة عند الشيعة لكنها لما سمعت بقتل عثمان رضي الله تعالى عنه وانحياز قتلته إلى علي كرم الله تعالى وجهه حزنت حزناً شديداً واستشعرت اختلال أمر المسلمين وحصول الفساد والفتنة فيما بينهم، وبينما هي كذلك جاءها طلحة‏.‏ والزبير‏.‏ ونعمان بن بشير، وكعب بن عجرة في آخرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم هاربين من المدينة خائفين من قتلة عثمان رضي الله تعالى عنهم لما أنهم أظهروا المباهاة بفعلهم القبيح، وأعلنوا بسب عثمان فضاقت قلوب أولئك الكرام وجعلوا يستقبحون ما وقع ويشنعون على أولئك السفلة ويلومونهم على ذلك الفعل الأشنع فصح عندهم عزمهم على إلحاقهم بعثمان رضي الله تعالى عنه‏.‏ وعلموا أن لا قدرة لهم على منعهم إذا هموا بذلك فخرجوا إلى مكة ولاذوا بأم المؤمنين وأخبروها الخبر فقالت لهم‏:‏ أرى الصلاح أن لا ترجعوا إلى المدينة ما دام أولئك السفلة فيها محيطين بمجلس الأمير علي كرم الله تعالى وجهه غير قادر على القصاص منهم أو طردهم فأقيموا ببلد تأمنون فيه وانتظروا انتظام أمور أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه وقوة شوكته واسعوا في تفرقهم عنه وإعانته على الانتقام منهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم فارتضوا ذلك واستحسنوه فاختاروا البصرة لما أنها كانت إذ ذاك مجمعاً لجنود المسلمين ورجحوها على غيرها وألحوا على أمهم رضي الله تعالى عنها أن تكون معهم إلى أن ترتفع الفتنة ويحصل الأمن وتنتظم أمور الخلافة وأرادوا بذلك زيادة احترامهم وقوة أمنيتهم لما أنها أم المؤمنين والزوج المحترمة غاية الاحترام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها كانت أحب أزواجه إليه وأكثرهن قبولاً عنده وبنت خليفته الأول رضي الله تعالى عنه فسارت معهم بقصد الإصلاح وانتظام الأمور وحفظ عدة نفوس من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم وكان معها ابن أختها عبد الله بن الزبير وغيره من أبناء أخواتها أم كلثوم زوج طلحة‏.‏

وأسماء زوج الزبير بل كل من معها بمنزلة الأبناء في المحرمية وكانت في هودج من حديد‏.‏

فبلغ الأمير كرم الله تعالى وجهه خبر التوجه إلى البصرة أولئك القتلة السفلة على غير وجهه وحملوه على أن يخرج إليهم ويعاقبهم، وأشار عليه الحسن‏.‏ والحسين‏.‏ وعبد الله بن جعفر‏.‏ وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم بعدم الخروج واللبث إلى أن يتضح الحال فأبى رضي الله تعالى عنه ليقضي الله أمراً كان مفعولا فخرج كرم الله تعالى وجهه ومعه أولئك الأشرار أهل الفتنة فلما وصلوا قريباً من البصرة أرسلوا القعقاع إلى أم المؤمنين‏.‏ وطلحة‏.‏ والزبير ليتعرف مقاصدهم ويعرضها على الأمير رضي الله تعالى عنهم وكرم الله وجهه فجاء القعقاع إلى أم المؤمنين فقال‏:‏ يا أماه ما أشخصك وأقدمك هذه البلدة‏؟‏ فقالت‏:‏ أي بني الإصلاح بين الناس ثم بعثت إلى طلحة‏.‏ والزبير‏.‏ فقال القعقاع‏:‏ أخبراني بوجه الصلاح قالا‏:‏ إقامة الحد على قتلة عثمان وتطييب قلوب أوليائه فيكون ذلك سبباً لأمننا وعبرة لمن بعدهم فقال القعقاع‏:‏ هذا لا يكون إلا بعد اتفاق كلمة المسلمين وسكون الفتنة فعليكما بالمسالمة في هذه الساعة فقالا‏:‏ أصبت وأحسنت فرجع إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه فأخبره بذلك فسر به واستبشر وأشرف القوم على الرجوع ولبثوا ثلاثة أيام لا يشكون في الصلح فلما غشيتهم ليلة اليوم الرابع وقررت الرسل والوسائط في البين أن يظهروا المصالحة صبيحة هذه الليلة ويلاقي الأمير كرم الله تعالى وجهه طلحة‏.‏ والزبير رضي الله تعالى عنهما وأولئك القتلة ليسوا حاضرين معه وتحققوا ذلك ثقل عليهم واضطربوا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فتشاوروا فيما بينهم أن يغيروا على من كان مع عائشة من المسلمين ليظنوا الغدر من الأمير كرم الله تعالى وجهه فيهجموا على عسكره فيظنوا بهم أنهم هم الذين غدروا فينشب القتال ففعلوا ذلك فهجم من كان مع عائشة على عسكر الأمير وصرخ أولئك القتلة بالغدر فالتحم القتال وركب الأمير متعجباً فرأى الوطيس قد حمى والرجال قد سبحت بالدماء فلم يسعه رضي الله تعالى عنه إلا الاشتغال بالحرب والطعن والضرب، وقد نقل الواقعة كما سمعت الطبري وجماهير ثقات المؤرخين ورووها كذلك من طرق متعددة عن الحسن‏.‏ وعبد الله بن جعفر‏.‏ وعبد الله بن عباس، وما وراء ذلك مما رواه الشيعة عن أسلافهم قتلة عثمان مما لا يلتفت له، ويدل على تغلب القتلة وقوة شوكتهم ما في «نهج البلاغة» المقبول عند الشيعة من أنه قال للأمير كرم الله تعالى وجهه بعض أصحابه‏:‏ لو عاقبت قوماً أجلبوا على عثمان فقال‏:‏ يا أخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف لي بهم والمجلبون على شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا‏.‏

فحيث كان الخروج أولاً للحج ومعها من محارمها من معها ولم يكن الأمر بالاستقرار في البيوت يتضمن النهي عن مثله لم يتوجه الطعن به أصلاً، وكذا المسير إلى البصرة لذلك القصد فإنه ليس أدون من سفر حج النفل؛ وما ترتب عليه لم يكن في حسابها ولم يمر ببالها ترتبه عليه، ولهذا لما وقع ما وقع وترتب ما ترتب ندمت غاية الندم، فقد روي أنها كلما كانت تذكر يوم الجمل تبكي حتى يبتل معجرها، بل أخرج عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد»‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي شيبة‏.‏ وابن سعد عن مسروق قال‏:‏ كانت عائشة رضي الله تعالى عنها إذا قرأت ‏{‏وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ‏}‏ بكت حتى تبل خمارها وما ذاك إلا لأن قراءتها تذكرها الواقعة التي قتل فيها كثير من المسلمين، وهذا كما أن الأمير كرم الله تعالى وجهه أحزنه ذلك، فقد صح أنه رضي الله تعالى عنه لما وقع الانهزام على من مع أم المؤمنين وقتل من قتل من الجمعين طاف في مقتل القتلى فكان يضرب على فخذيه ويقول‏:‏ ‏{‏يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 23‏]‏، وليس بكاؤها عند قراءة الآية لعلمها بأنها أخطأت في فهم معناها أو أنها نسيتها يوم خرجت كما توهم، وقال في ذلك مستهزئاً كاظم الأزدي البغدادي من متأخري شعراء الرافضة من قصيدة طويلة كفر بعدة مواضع فيها‏:‏

حفظت أربعين ألف حديث *** ومن الذكر آية تنساها

نعم قد ينضم لما ذكرناه في سبب البكاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأزواجه المطهرات وفيهن عائشة‏:‏ «كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب» وفي بعض الروايات الغير المعتبرة عند أهل السنة بزيادة «فإياك أن تكوني يا حميراء» ولم تكن سألت قبل المسير عن الحوأب هل هو واقع في طريقها أم لا حتى نبحتها في أثناء المسير كلاب عند ماء فقالت لمحمد بن طلحة‏:‏ ما اسم هذا الماء‏؟‏ فقال‏:‏ يقولون له حوأب فقالت‏:‏ ارجعوني وذكرت الحديث وامتنعت عن المسير وقصدت الرجوع فلم يوافقها أكثر من معها ووقع التشاجر حتى شهد مروان بن الحكم مع نحو من ثمانين رجلاً من دهاقين تلك الناحية بأن هذا الماء ماء آخر وليس هو حوأباً فمضت لشأنها بسبب ذلك وتعذر الرجوع ووقوع الأمر، فكأنها رضي الله تعالى عنها رأت سكوتها عن السؤال وتحقيق الحال قبل المسير تقصيراً منها وذنباً بالنسبة إلى مقامها فبكت له‏.‏ ولما تقدم وما زعمته الشيعة من أنها رضي الله تعالى عنها كانت هي التي تحرض الناس على قتل عثمان وتقول‏:‏ اقتلوا نعثلاً فقد فجر تشبهه بيهودي يدعى نعثلاً حتى إذا قتل وبايع الناس علياً قالت‏:‏ ما أبالي أن تقع السماء على الأرض قتل والله مظلوماً وأنا طالبة بدمه فذكرها عبيد بما كانت تقول فقالت‏:‏ قد والله قلت وقال الناس فأنشد‏:‏

فمنك البداء ومنك الغير *** ومنك الرياح ومنك المطر وأنت أمرت بقتل الإمام

وقلت لنا إنه قد فجر *** كذب لا أصل له وهو من مفتريات ابن قتيبة‏.‏ وابن أعثم الكوفي‏.‏ والسمساطي وكانوا مشهورين بالكذب والافتراء، ومثل ذلك في الكذب زعمهم أنها رضي الله تعالى عنها ما خرجت وسارت إلى البصرة إلا لبغض علي كرم الله تعالى وجهه فإنها لم تزل تروي مناقبه وفضائله؛ ومن ذلك ما رواه الديلمي أنها قالت‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حب على عبادة ‏"‏ وقالت بعد وقوع ما وقع‏:‏ والله لم يكن بيني وبين علي إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها‏.‏

وقد أكرمها علي كرم الله تعالى وجهه وأحسن مثواها وبالغ في احترامها وردها إلى المدينة ومعها جماعة من نساء أعيان البصرة عزيزة كريمة، وهذا مما يرد به على الرافضة الزاعمين كفرها وحاشاها بما فعلت، وما روي عن الأحنف بن قيس من أن علياً كرم الله تعالى وجهه لما ظهر على أهل الجمل أرسل إلى عائشة أن ارجعي إلى المدينة فأبت فأعاد إليها الرسول وأمره أن يقول لها‏:‏ والله لترجعن أو لأبعثن إليك نسوة من بكر بن وائل معهن شفار حداد يأخذنك بها فلما رأت ذلك خرجت لا يعول عليه وإن قيل‏:‏ إنه رواه أبو بكر بن أبي شيبة في «المصنف» لمخالفته لما رواه الأوثق حتى كاد يبلغ مبلغ التواتر، هذا ولا يعكر على القول بجواز الخروج للحج ونحوه ما أخرجه عبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر عن محمد بن سيرين قال‏:‏ ثبت أنه قيل لسودة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما لك لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك‏؟‏ فقالت‏:‏ قد حججت واعتمرت وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت قال‏:‏ فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها لأن ذلك مبني على اجتهادها كما أن خروج الأخوات مبني على اجتهادهن، نعم أخرج أحمد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنسائه عام حجة الوداع‏:‏ ‏"‏ هذه ثم لزوم الحصر ‏"‏ قال‏:‏ فكان كلهن يحججن إلا زينب بنت جحش‏.‏ وسودة بنت زمعة وكانتا تقولان‏:‏ والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ هذه الخ أنكن لا تعدن تخرجن بعد هذه الحجة من بيوتكن وتلزمن الحصر وهو جمع حصير الذي يبسط في البيوت من القصب وتضم الصاد وتسكن تخفيفاً وهو في معنى النهي عن الخروج للحج فلا يتم ما ذكر أولاً ويشكل خروج سائر الأزواج لذلك‏.‏

وأجيب بأن الخبر ليس نصاً في النهي عن الخروج للحج بعد تلك الحجة وإلا لما خرج له سائر الأزواج الطاهرات من غير نكير أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عليهن بل جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه أرسلهن للحج في عهده وجعل معهن عثمان‏.‏ وعبد الرحمن بن عوف وقال لهما‏:‏ إنكما ولدان باران لهن فليكن أحدكما قدام مراكبهن والآخر خلفها ولم ينكر أحد فكان إجماعاً سكوتياً على الجواز فكأن زينب‏.‏ وسودة فهما من الخبر قضيت هذه الحجة أو أبيحت لكن هذه الحجة بخصوصهما ثم الواجب بعدها عليكن لزوم البيوت فلم يحجا بعد لذلك، وغيرهما فهم منه المناسب لكن أو اللائق بكن هذه الحجة أي جنسها أو هذه الحالة من السفر للحج أو لأمر ديني مهم ثم بعد الفراغ المناسب أو اللائق لزوم البيوت فيكون مفاده إباحة الخروج لذلك، ومن أنصف لا يكاد يقول بإفادة الخبر الأمر بلزوم البيوت والنهي عن الخروج منها مطلقاً بعد تلك الحجة بخصوصها فإن النبي صلى الله عليه وسلم مرض في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها وبقي مريضاً فيه حتى توفي عليه الصلاة والسلام ولا يكاد يشك أحد في خروج سائرهن لعيادته أو يتصور استقرارهن في بيوتهن غير بالين شوقهن برؤية طلعته الشريفة حتى توفي صلى الله عليه وسلم فإن مثل ذلك لا يفعله أقل النساء حباً لأزواجهن الذين لا قدر لهم فكيف يفعله الأزواج الطاهرات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو هو وحبهن له حبهن‏.‏ ثم إن الجواب المذكور إنما يحتاج إليه بعد تسليم صحة الخبر ويحتاج الجزم بصحته إلى تنقير ومراجعة فلينقر وليراجع والله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏وَقَرْنَ فِى وَءاتِينَ الزكواة‏}‏ أمرن بهما لا نافتهما على غيرهما وكونهما أساس العبادات البدنية والمالية‏.‏

‏{‏وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ أي في كل ما تأتين وتذرن لا سيما فيما أمرتن به ونهيتن عنه‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً‏}‏ استئناف بياني مفيد تعليل أمرهن ونهيهن، والرجس في الأصل الشيء القذر وأريد به هنا عند كثير الذنب مجازاً، وقال السدي‏:‏ الإثم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الفسق وقال ابن زيد‏:‏ الشيطان، وقال الحسن‏:‏ الشرك، وقيل‏:‏ الشك، وقيل‏:‏ البخل والطمع، وقيل‏:‏ الأهواء والبدع، وقيل‏:‏ إن الرجس يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص، والمراد به هنا ما يعم كل ذلك، ولا يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال من الضعف، وأل فيه للجنس أو للاستغراق، والمرادب التطهير قيل التحلية بالتقوى، والمعنى على ما قيل إنما يريد الله ليذهب عنكم الذنوب والمعاصي فيما نهاكم ويحليكم بالتقوى تحلية بليغة فيما أمركم، وجوز أن يراد به الصون، والمعنى إنما يريد سبحانه ليذهب عنكم الرجس ويصونكم من المعاصي صوناً بليغاً فيما أمر ونهى جل شأنه‏.‏

واختلف في لام ‏{‏لِيُذْهِبَ‏}‏ فقيل زائدة وما بعدها في موضع المفعول به ليريد فكأنه قيل‏:‏ يريد الله إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم، وقيل‏:‏ للتعليل ثم اختلف هؤلاء فقيل المفعول محذوف أي إنما يريد الله أمركم ونهيكم ليذهب أو إنما يريد منكم ما يريد ليذهب أو نحو ذلك، وقال الخليل‏.‏ وسيبويه ومن تابعهما‏:‏ الفعل في ذلك مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء واللام وما بعدها خبر أي إنما إرادة الله تعالى للإذهاب على حد ما قيل في تسمع بالمعيدي خير من أن تراه فلا مفعول للفعل، وقال الطبرسي‏:‏ اللام متعلق بمحذوف تقديره وإرادته ليذهب وهو كما ترى، وهذا الذي ذكروه جار في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6 2‏]‏ و‏{‏أَمْرُنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1 7‏]‏ وقول الشاعر‏:‏

أريد لأنسى ذكرها فكأنما *** تمثل لي ليلى بكل مكان

ونصب ‏{‏أَهْلُ‏}‏ على النداء، وجوز أن يكون على المدح فيقدر أمدح أو أعني، وأن يكون على الاختصاص وهو قليل في المخاطب ومنه بك الله نرجو الفضل، وأكثر ما يكون في المتكلم كقوله‏:‏

نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق

وأل في البيت للعهد، وقيل‏:‏ عوض عن المضاف إليه أي بيت النبي صلى الله عليه وسلم والظاهر أن المراد به بيت الطين والخشب لا بيت القرابة والنسب وهو بيت السكنى لا المسجد النبوي كما قيل، وحينئذٍ فالمراد بأهله نساؤه صلى الله عليه وسلم المطهرات للقرائن الدالة على ذلك من الآيات السابقة واللاحقة مع أنه عليه الصلاة والسلام ليس له بيت يسكنه سوى سكناهن، وروى ذلك غير واحد، أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت ‏{‏أَنَّمَا يُرِيدُ الله‏}‏ الخ في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وأخرج ابن مردويه من طريق ابن جبير عنه ذلك بدون لفظ خاصة، وقال عكرمة من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن مردويه عن عكرمة أنه قال في الآية‏:‏ ليس بالذي تذهبون إليه إنما هو نساء النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروى ابن جرير أيضاً أن عكرمة كان ينادي في السوق أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت‏}‏ نزل في نساء النبي عليه الصلاة والسلام، وأخرج ابن سعد عن عروة ‏{‏لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت‏}‏ قال‏:‏ يعني أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتوحيد البيت لأن بيوت الأزواج المطهرات باعتبار الإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بيت واحد وجمعه فيما سبق ولحق باعتبار الإضافة إلى الأزواج المطهرات اللاتي كن متعددات وجمعه في قوله سبحانه الآتي إن شاء الله تعالى‏:‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 3 5‏]‏ دفعاً لتوهم إرادة بيت زينب لو أفرد من حيث إن سبب النزول أمر وقع فيه كما ستطلع عليه إن شاء الله تعالى، وأورد ضمير جمع المذكر في ‏{‏عَنْكُمْ‏}‏ و‏{‏يطهركم‏}‏ رعاية للفظ الأهل‏.‏ والعرب كثيراً ما يستعملون صيغ المذكر في مثل ذلك رعاية للفظ وهذا كقوله تعالى خطاباً لسارة‏:‏ امرأة الخليل عليهما السلام ‏{‏أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ الله وبركاته عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت إِنَّهُ حَمِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 3 7‏]‏ ومنه على ما قيل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالَ لاِهْلِهِ لاِهْلِهِ إِنّى آنَسْتُ نَاراً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 9 2‏]‏ خطاباً من موسى عليه السلام لامرأته‏.‏ ولعل اعتبار التذكير هنا أدخل في التعظيم، وقيل‏:‏ المراد هو صلى الله عليه وسلم ونساؤه المطهرات رضي الله تعالى عنهن وضمير جمع المذكر لتغليبه عليه الصلاة والسلام عليهن‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالبيت بيت النسب ولذا أفرد ولم يجمع كما في السابق واللاحق‏.‏

فقد أخرج الحكيم الترمذي‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن مردويه‏.‏ وأبو نعيم‏.‏ والبيهقي معاً في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً ‏"‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأصحاب اليمين‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 27‏]‏ ‏{‏وأصحاب الشمال‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 41‏]‏ فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين ثم جعل القسمين أثلاثاً فجعلني في خيرها ثلثاً فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأصحاب المشئمة مَا أصحاب المشئمة والسابقون السابقون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 9، 0 1‏]‏ فأنا من السابقين وأنا خير السابقين ثم جعل إلا ثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 3 1‏]‏ وأنا أتقي ولد آدم وأكرمهم على الله تعالى ولا فخر ثم جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً‏}‏ أنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب» فإن المتبادر من البيت الذي هو قسم من القبيلة البيت النسبي، واختلف في المراد بأهله فذهب الثعلبي إلى أن المراد بهم جميع بني هاشم ذكورهم وإناثهم، والظاهر أنه أراد مؤمني بني هاشم وهذا هو المراد بالآل عند الحنفية، وقال بعض الشافعية‏:‏ المراد بهم آله صلى الله عليه وسلم الذين هم مؤمنو بني هاشم‏.‏ والمطلب، وذكر الراغب أن أهل البيت تعورف في أسرة النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً وأسرة الرجل على ما في «القاموس» رهطه أي قومه وقبيلته الأدنون، وقال في موضع آخر‏:‏ صار أهل البيت متعارفاً في ءاله عليه الصلاة والسلام، وصح عن زيد ابن أرقم في حديث أخرجه مسلم أنه قيل له‏:‏ من أهل بيته نساؤه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ لا أيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده صلى الله عليه وسلم، وفي آخر أخرجه هو أيضاً مبين هؤلاء الذي حرموا الصدقة أنه قال‏:‏ هم آل علي‏.‏

وآل عقيل‏.‏ وآل جعفر‏.‏ وآل عباس، وقال بعض الشيعة‏:‏ أهل البيت سواء أريد به البيت المدر والخشب أم بيت القرابة والنسب عام، أما عمومه على الثاني فظاهر، وأما على الأول فلأنه يشمل الإماء والخدم فإن البيت المدري يسكنه هؤلاء أيضاً وقد صح ما يدل على أن العموم غير مراد‏.‏

أخرج الترمذي‏.‏ والحاكم وصححاه‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي‏.‏ في سننه من طرق عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت في بيتي نزلت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وفي البيت فاطمة وعلى‏.‏ والحسن‏.‏ والحسين فجللهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه ثم قال‏:‏ هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً‏.‏

وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء وقال‏:‏ اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ثلاث مرات‏.‏

وفي بعض آخر أنه عليه الصلاة والسلام ألقى عليهم كساء فدكياً ثم وضع يده عليهم ثم قال‏:‏ اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وفي لفظ آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏.‏

وجاء في رواية أخرجها الطبراني عن أم سلمة أنها قالت‏:‏ فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه صلى الله عليه وسلم من يدي وقال‏:‏ إنك على خير، وفي أخرى رواها ابن مردويه عنها أنها قالت ألست من أهل البيت‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم إنك إلى خير إنك من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخرها رواها الترمذي‏.‏ وجماعة عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ قالت أم سلمة وأنا معنم‏:‏ يا نبي الله قال‏:‏ أنت على مكانك وإنك على خير، وأخبار إدخاله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وابنيهما رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء، وقوله عليه الصلاة والسلام اللهم هؤلاء أهل بيتي ودعائه لهم وعدم إدخال أم سلمة أكثر من أن تحصى، وهي مخصصة لعموم أهل البيت بأي معنى كان البيت فالمراد بهم من شملهم الكساء ولا يدخل فيهم أزواجه صلى الله عليه وسلم، وقد صرح بعدم دخولهن من الشيعة عبد الله المشهدي وقال المراد من البيت بيت النبوة ولا شك أن أهل البيت لغة شامل للأزواج بل للخدام من الإماء اللائي يسكن في البيت أيضاً‏:‏ وليس المراد هذا المعنى اللغوي بهذه السعة بالاتفاق فالمراد به آل العباء الذين خصصهم حديث الكساء وقال أيضاً‏:‏ إن كون البيوت جمعاً في ‏{‏بُيُوتِكُنَّ‏}‏ وإفراد البيت في ‏{‏أَهْلَ البيت‏}‏ يدل على أن بيوتهن غير بيت النبي صلى الله عليه وسلم اه، وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى‏.‏

وقيل المراد بالبيت بيت السكنى وبيت النسب وأهل ذلك أهل كل من البيتين وقد سمعت ما قيل فيه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز‏.‏

وقال بعض المحققين‏:‏ المراد بالبيت بيت السكنى وأهله على ما يقتضيه سياق الآية وسباقها والأخبار التي لا تحصى كثرة ويشهد له العرف من له مزيد اختصاص به إما بالسكنى فيه مع القيام بمصالحه وتدبير شأنه والاهتمام بأمره وعدم كون الساكن في معرض التبدل والتحول بحكم العادة الجارية من بيع وهبة كالأزواج أو بالسكنى فيه كذلك بدون ملاحظة القيام بالمصالح كالأولاد أو بقرابة من صاحبه تقضي بحسب العادة بالتردد إليه والجلوس فيه من غير طلب من صاحبه لذلك أو بعدم المنع من ذلك فالأولاد الذين لا يسكنونه وكأولادهم وإن نزلوا وكالأعمام وأولاد الأعمام وعلى هذا يحصل الجمع بين الأخبار وقد سمعت بعضها كحديث الكساء ولا دلالة فيه على الحصر، وكالحديث الحسن أنه صلى الله عليه وسلم اشتمل على العباس وبنيه بملاءة ثم قال‏:‏ يا رب هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت آمين ثلاثاً‏.‏

وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام ضم إلى أهل الكساء علي‏.‏ وفاطمة‏.‏ والحسنين رضي الله تعالى عنهم بقية بناته وأقاربه وأزواجه وصح عن أم سلمة في بعض آخر أنها قالت، فقلت يا رسول الله أما أنا من أهل البيت‏؟‏ فقال‏:‏ بلى إن شاء الله تعالى، وفي بعض آخر أيضاً أنها قالت له صلى الله عليه وسلم‏؟‏ ألست من أهلك قال‏:‏ بلى وأنه عليه الصلاة والسلام أدخلها الكساء بعد ما قضى دعاءه لهم، وقد تكرر كما أشار إليه المحب الطبري منه صلى الله عليه وسلم الجمع وقول هؤلاء أهل بيتي والدعاء في بيت أم سلمة وبيت فاطمة رضي الله تعالى عنهما وغيرهما وبه جمع بين اختلاف الروايات في هيئة الاجتماع وما جلل صلى الله عليه وسلم به المجتمعين وما دعا به لهم، وما أجاب به أم سلمة وعدم إدخالها في بعض المرات تحت الكساء ليس لأنها ليست من أهل البيت أصلاً بل لظهور أنها منهم حيث كانت من الأزواج اللاتي يقتضي سياق الآية وسباقها دخولهن فيهم بخلاف من أدخلوا تحته رضي الله تعالى عنهم فإنه عليه الصلاة والسلام لو لم يدخلهم ويقل ما قال لتوهم عدم دخولهم في الآية لعدم اقتضاء سياقها وسباقها ذلك، وذكر ابن حجر على تقدير صحة بعض الروايات المختلفة الحمل على أن النزول كان مرتين، وقد أدخل صلى الله عليه وسلم بعض من لم يكن بينه وبينه قرابة سببية ولا نسبية في أهل البيت توسعاً وتشبيهاً كسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه حيث قال عليه الصلاة والسلام‏:‏

‏"‏ سلمان منا أهل البيت ‏"‏ وجاء في رواية صحيحة أن واثلة قال‏:‏ وأنا من أهلك يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ عليه الصلاة والسلام وأنت من أهلي فكان واثلة يقول‏:‏ إنها لمن أرجى ما أرجو، والخبر الدال بظاهره على أن المراد بالبيت البيت النسبي أعني خبر الحكيم الترمذي ومن معه عن ابن عباس يجوز حمل البيت فيه على بيت المدر والحيوان ينقسم إلى رومي وزنجي مثلاً كما ينقسم الإنسان إليهما على أن في رواته من وثقه ابن معين وضعفه غيره والجرح مقدم على التعديل وما روي عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه من نفي كون أزواجه صلى الله عليه وسلم أهل بيته وكون أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده عليه الصلاة والسلام فالمراد بأهل البيت فيه أهل البيت الذين جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني الثقلين لا أهل البيت بالمعنى الأعم المراد في الآية، ويشهد لهذا ما في «صحيح مسلم» عن يزيد بن حبان قال‏:‏ انطلقت أنا‏.‏ وحصين بن سبرة‏.‏ وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين‏:‏ لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً حدثنا يا زيد بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوا وما لا لا تكلفونيه ثم قال‏:‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال‏:‏ ‏"‏ أما بعد ألا يا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ‏"‏ فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال‏:‏ ‏"‏ وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً فقال له حصين‏:‏ ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من من أهل بيته‏؟‏ قال‏:‏ نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده قال‏:‏ ومن هم قال هم آل علي وآل عقيل‏.‏ وآل جعفر‏.‏ وآل عباس ‏"‏

الحديث فإن الاستدراك بعد جعله النساء من أهل بيته صلى الله عليه وسلم ظاهر في أن الغرض بيان المراد بأهل البيت في الحديث الذي حدث به عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم فيه ثاني الثقلين فلأهل البيت إطلاقان يدخل في أحدهما النساء ولا يدخلن في الآخر وبهذا يحصل الجمع بين هذا الخبر والخبر السابق المتضمن نفيه رضي الله تعالى عنه كون النساء من أهل البيت‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن ظاهر تعليله نفي كون النساء أهل البيت بقوله‏:‏ أيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها يقتضي أن لا يكن من أهل البيت مطلقاً فلعله أراد بقوله في الخبر السابق نساؤه من أهل بيته أنساؤه الخ بهمزة الاستفهام الإنكاري فيكون بمعنى ليس نساؤه من أهل بيته كما في معظم الروايات في غير «صحيح مسلم» ويكون رضي الله تعالى عنه ممن يرى أن نساءه عليه الصلاة والسلام لسن من أهل البيت أصلاً ولا يلزمنا أن ندين الله تعالى برأيه لا سيما وظاهر الآية معنا وكذا العرف وحينئذٍ يجوز أن يكون أهل البيت الذين هم أحد الثقلين بالمعنى الشامل للأزواج وغيرهن من أصله وعصبته صلى الله عليه وسلم الذين حرموا الصدقة بعده ولا يضر في ذلك عدم استمرار بقاء الأزواج كما استمر بقاء الآخرين مع الكتاب كما لا يخفى اه، وأنت تعلم أن ظاهر ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إني تارك فيكم خليفتين وفي رواية ثقلين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ‏"‏ يقتضي أن النساء المطهرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثقلين لأن عترة الرجل كما في «الصحاح» نسله ورهطه الأدنون، وأهل بيتي في الحديث الظاهر أنه بيان له أو بدل منه بدل كل من كل وعلى التقديرين يكون متحداً معه فحيث لم تدخل النساء في الأول لم تدخل في الثاني‏.‏ وفي النهاية أن عترة النبي صلى الله عليه وسلم بنو عبد المطلب‏.‏ وقيل أهل بيته الأقربون وهم أولاده وعلي وأولاده رضي الله تعالى عنهم، وقيل‏:‏ عترته الأقربون والأبعدون منهم اه‏.‏ والذي رجحه القرطبي أنهم من حرمت عليهم الزكاة، وفي كون الأزواج المطهرات كذلك خلاف قال ابن حجر‏:‏ والقول بتحريم الزكاة عليهن ضعيف وإن حكى ابن عبد البر الإجماع عليه فتأمل، ولا يرد على حمل أهل البيت في الآية على المعنى الأعم ما أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني‏.‏

عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت هذه الآية في خمسة في وفي علي وفاطمة وحسن وحسين إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً» إذ لا دليل فيه على الحصر والعدد لا مفهوم له، ولعل الاقتصار على من ذكر صلوات الله تعالى وسلامه عليهم لأنهم أفضل من دخل في العموم وهذا على تقدير صحة الحديث والذي يغلب على ظني أنه غير صحيح إذ لم أعهد نحو هذا في الآيات منه صلى الله عليه وسلم في شيء من الأحاديث الصحيحة التي وقفت عليها في أسباب النزول، وبتفسير أهل البيت بمن له مزيد اختصاص به على الوجه الذي سمعت يندفع ما ذكره المشهدي من شموله للخدام والاماء والعبيد الذين يسكنون البيت فإنهم في معرض التبدل والتحول بانتقالهم من ملك إلى ملك بنحو الهبة والبيع وليس لهم قيام بمصالحه واهتمام بأمره وتدبير لشأنه إلا حيث يؤمرون بذلك، ونظمهم في سلك الأزواج ودعوى أن نسبة الجميع إلى البيت على حد واحد مما لا يرتضيه منصف ولا يقول به إلا متعسف‏.‏

وقال بعض المتأخرين‏:‏ إن دخولهم في العموم مما لا بأس به عند أهل السنة لأن الآية عندهم لا تدل على العصمة ولا حجر على رحم الله عز وجل ولأجل عين ألف عين تكرم، وأما أمر الجمع والافراد فقد سمعت ما يتعلق به، والظاهر على هذا القول أن التعبير بضمير جمع المذكر في ‏{‏عَنْكُمْ‏}‏ للتغليب، وذكر أن في ‏{‏عَنْكُمْ‏}‏ عليه تغليبين أحدهما تغليب المذكر على المؤنث، وثانيهما تغليب المخاطب على الغائب إذ غير الأزواج المطهرات من أهل البيت لم يجر لهم ذكر فيما قبل ولم يخاطبوا بأمر أو نهي أو غيرهما فيه، وأمر التعليل عليه ظاهر وإن لم يكن كظهوره على القول بأن المراد بأهل البيت الأزواج المطهرات فقط‏.‏

واعتذر المشهدي عن وقوع جملة ‏{‏أَنَّمَا يُرِيدُ الله‏}‏ الخ في البين بأن مثله واقع في القرآن الكريم فقد قال تعالى شأنه‏:‏ ‏{‏قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4 5‏]‏ ثم قال سبحانه بعد تمام الآية‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 56‏]‏ فعطف أقيموا على أطيعوا مع وقوع الفصل الكثير بينهما، وفيه أنه وقع بعد ‏{‏أَقِيمُواْ‏}‏ الخ ‏{‏الله وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ فلو كان العطف على ما ذكر لزم عطف أطيعوا على على أطيعوا وهو كما ترى‏.‏

سلمنا أن لا فساد في ذلك إلا أن مثل هذا الفصل ليس في محل النزاع فإنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي من حيث الاعراب وهو لا ينافي البلاغة وما نحن فيه على ما ذهبوا إليه فصل بأجنبي باعتبار موارد الآيات اللاحقة والسابقة، وإنكار منافاته للبلاغة القرآنية مكابرة لا تخفى‏.‏

ومما يضحك منه الصبيان أنه قال بعد‏:‏ إن بين الآيات مغايرة إنشائية وخبرية لأن آية التطهير جملة ندائية وخبرية وما قبلها وما بعدها من الأمر والنهي جمل إنشائية وعطف الإنشائية على الخبرية لا يجوز، ولعمري أنه أشبه كلام من حيث الغلط بقول بعض عوام الأعجام‏:‏ خسن وخسين دختران مغاوية ‏{‏وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 0 4‏]‏ ثم أن الشيعة استدلوا بالآية بعد قولهم‏:‏ بتخصيص أهل البيت فيها بمن سمعت وجعل ‏{‏لِيُذْهِبَ‏}‏ مفعولاً به ‏{‏ليريد‏}‏ وتفسير الرجس بالذنوب على العصمة فذهبوا إلى أن علياً وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم معصومون من الذنوب عصمته صلى الله عليه وسلم منها وتعقبه بعض أجلة المتأخرين بأنه لو فرض تعين كل ما ذهبوا إليه لا تسلم دلالتها على العصمة بل لها دلالة على عدمها إذ لا يقال في حق من هو طاهر‏:‏ إني أريد أن أطهره ضرورة امتناع تحصيل الحاصل، وغاية ما في الباب أن كون أولئك الأشخاص رضي الله تعالى عنهم محفوظين من الرجس والذنوب بعد تعلق الإرادة بإذهاب رجسهم يثبت بالآية ولكن هذا أيضاً على أصول أهل السنة لا على أصول الشيعة لأن وقوع مراده تعالى غير لازم عندهم لإرادته عز وجل مطلقاً وبالجملة لو كانت إفادة معنى العصمة مقصودة لقيل هكذا إن الله أذهب عنكم الرجس أهل البيت وطهركم تطهيراً وأيضاً لو كانت مفيدة للعصمة ينبغى أن يكون الصحابة لا سيما الحاضرين في غزوة بدر قاطبة معصومين لقوله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ بل لعل هذا أفيد لما فيه من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ فإن وقوع هذا الاتمام لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان اه‏.‏ وقرر الطبرسي وجه الاستدلال بها على العصمة بأن ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ لفظة محققة لما أثبت بعدها نافية لما لم يثبت فإذا قيل‏:‏ إنما لك عندي درهم أفاد أنه ليس للمخاطب عنده سوى درهم فتفيد الآية تحقق الإرادة ونفي غيرها، والإرادة لا تخلو من أن تكون هي الإرادة المحضة أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس لا يجوز أن تكون الإرادة المحضة لأنه سبحانه وتعالى قد أراد من كل مكلف ذلك بالإرادة المحضة فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر المكلفين ولأن هذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بلا ريب ولا مدح في الإرادة المجردة فتعين إرادة الإرادة بالمعنى الثاني، وقد علم أن من عدا أهل الكساء غير مراد فتختص العصمة بهم اه‏.‏ وهو كما ترى، على أنه قد ورد في كتب الشيعة ما يدل على عدم عصمة الأمر كرم الله تعالى وجهه وهو أفضل من ضمه الكساء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي نهج البلاغة أنه كرم الله تعالى وجهه قال لأصحابه‏:‏ لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بفوق أن أخطىء ولا آمن من ذلك في فعلى إلا أن يلقى الله تعالى في نفسي ما هو أملك به مني‏.‏

وفيه أيضاً كان كرم الله تعالى وجهه يقول في دعائه‏:‏ اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك وخالفه قلبي، وقصد التعليم كما في بعض الأدعية النبوية بعيد كذا قيل فتدبر ولا تغفل، وفسر بعض أهل السنة الإرادة ههنا بالمحبة قالوا‏:‏ لأنه لو أريد بها الإرادة التي يتحقق عندها الفعل لكان كل من أهل البيت إلى يوم القيامة محفوظاً من كل ذنب والمشاهد خلافه، والتخصيص بأهل الكساء وسائر الأئمة الأثنى عشر كما ذهب إليه الإمامية المدعون عصمتهم مما لا يقوم عليه دليل عندنا، والمدح جاء من جهة الاعتناء بشأنهم وإفادتهم محبة الله تعالى لهم هذا الأمر الجليل الشأن ومخاطبته سبحانه إياهم بذلك وجعله قرآناً يتلى إلى يوم القيامة‏.‏

وقد يستدل على كون الإرادة ههنا بالمعنى المذكور دون المعنى المشهور الذي يتحقق عنده الفعل بأنه صلى الله عليه وسلم قال حين أدخل علياً وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء «اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً» فإنه أي حاجة للدعاء لو كان ذلك مراداً بالإرادة بالمعنى المشهور وهل هو إلا دعاء بحصول واجب الحصول‏.‏

واستدل بهذا بعضهم على عدم نزول الآية في حقهم وإنما ادخلهم صلى الله عليه وسلم في أهل البيت المذكور في الآية بدعائه الشريف عليه الصلاة والسلام ولا يخلو جميع ما ذكر عن بحث، والذي يظهر لي أن المراد بأهل البيت من لهم مزيد علاقة به صلى الله عليه وسلم ونسبة قوية قريبة إليه عليه الصلاة والسلام بحيث لا يقبح عرفا اجتماعهم وسكناهم معه صلى الله عليه وسلم في بيت واحد ويدخل في ذلك أزواجه والأربعة أهل الكساء وعلي كرم الله تعالى وجهه مع ماله من القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نشأ في بيته وحجره عليه الصلاة والسلام فلم يفارقه وعامله كولده صغيراً وصاهره وآخاه كبيراً، والإرادة على معناها الحقيقي المستتبع للفعل، والآية لا تقوم دليلاً على عصمة أهل بيته صلى الله تعالى عليه وعليهم وسلم الموجودين حين نزولها وغيرهم ولا على حفظهم من الذنوب على ما يقوله أهل السنة لا لاحتمال أن يكون المراد توجيه الأمر والنهي أو نحوه لاذهاب الرجس والتطهير بأن يجعل المفعول به ‏{‏ليريد‏}‏ محذوفاً ويجعل ‏{‏لِيُذْهِبَ‏}‏ في موضع المفعول له وإن لم يكن فيه بأس وذهب إليه من ذهب بل لأن المعنى حسبما ينساق إليه الذهب ويقتضيه وقوع الجملة موقع التعليل للنهي والأمر نهاكم الله تعالى وأمركم لأنه عز وجل يريد بنهيكم وأمركم إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم وفي ذلك غاية المصلحة لكم ولا يريد بذلك امتحانكم وتكليفكم بلا منفعة تعود إليكم وهو على معنى الشرط أي يريد بنهيكم وأمركم ليذهب عنكم الرجس ويطهركم أن انتهيتم وائتمرتم ضرورة أن أسلوب الآية نحو أسلوب قول القائل لجماعة علم أنهم إذا شربوا الماء أذهب عنهم عطشهم لا محالة يريد الله سبحانه بالماء ليذهب عنكم العطش فإنه على معنى يريد سبحانه بالماء اذهاب العطش عنكم إن شربتوه فيكون المراد إذهاب العطش بشرط شرب المخاطبين الماء لا الإذهاب مطلقاً‏.‏

فمفاد التركيب في المثال تحقق إذهاب العطش بعد الشرب وفيما نحن فيه إذهاب الرجس والتطهير بعد الانتهاء والائتمار لأن المراد الإذهاب المذكور بشرطهما فهو متحقق الوقوع بعد محقق الشرط وتحققه غير معلوم إذ هو أمر اختياري وليس متعلق الإرادة، والمراد بالرجس الذنب وبإذهابه إزالة مباديه بتهذيب النفس وجعل قواها كالقوة الشهوانية والقوة الغضبية بحيث لا ينشأ عنها ما ينشأ من الذنوب كالزنا وقتل النفس التي حرم الله تعالى وغيرهما لا إزالة نفس الذنب بعد تحققه في الخارج وصدوره من الشخص إذ هو غير معقول إلا على معنى محوه من صحائف الأعمال وعدم المؤاخذة عليه وإرادة ذلك كما ترى‏.‏

وكأن مآل الإذهاب التخلية ومآل التطهير التحلية بالحاء المهملة، والآية متضمنة الوعد منه عز وجل لأهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم ان ينتهوا عما ينهى عنه ويأتمروا بما يأمرهم به بذهب عنهم لا محال مبادي ما يستهجن ويحليهم أجل تحلية بما يستحسن، وفيه إيماء إلى قبول أعمالهم وترتب الآثار الجملية عليها قطعاً ويكون هذا خصوصية لهم ومزية على من عداهم من حيث أن أولئك الأغيار إذا انتهوا وائتمروا لا يقطع لهم بحصول ذلك‏.‏

ولذا نجد عباد أهل البيت أتم حالاً من سائر العباد المشاركين لهم في العبادة الظاهرة وأحسن اخلاقاً وأزكى نفساً وإليهم تنتهي سلاسل الطرائق التي مبناها كما لا يخفى على سالكيها التخلية والتحلية اللتان هما جناحان للطيران إلى حظائر القدس والوقوف على أوكار الإنس حتى ذهب قوم إلى أن القطب في كل عصر لا يكون إلا منهم خلافاً للأستاذ أبي العباس المرسي حيث ذهب كما نقل عنه تلميذه التاج بن عطاء الله إلى أنه قد يكون من غيرهم، ورأيت في مكتوبات الإمام الفاروقي الرباني مجدد الألف الثاني قدس سره ما حاصله أن القطبية لم تكن على سبيل الإصال إلا لأئمة أهل البيت المشهورين ثم إنها صارت بعدهم لغيرهم على سبيل النيابة عنهم حتى انتهت النوبة إلى السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره النوراني فنال مرتبة القطبية على سبيل الإصالة فلما عرج بروحه القدسية إلى أعلى عليين نال من نال بعده تلك الرتبة على سبيل النيابة عنه فإذا جاء المهدي ينالها إصالة كما نالها غيره من الأئمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين اه، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته والوقوف على حقيته إلا بالكشف وأنى لي به‏.‏

والذي يغلب على ظني أن القطب قد يكون من غيرهم لكن قطب الاقطاب لا يكون إلا منهم لأنهم أزكى الناس أصلاً وأوفرهم فضلاً وأن من ينال هذه الرتبة منهم لا ينالها إلا على سبيل الإصالة دون النيابة والوكالة وأنا لا أعقل النيابة في ذلك المقام وإن عقلت قلت‏:‏ كل قطب في كل عصر نائب عن نبينا عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام ولا بدع في نيابة الأقطاب بعده عنه صلى الله عليه وسلم كما نابت عنه الأنبياء قلبه فهو عليه الصلاة والسلام الكامل المكمل للخليقة والواسطة في الإفاضة عليهم على الحقيقة وكل من تقدمه عصراً من الأنبياء وتأخر عنه من الأقطاب والأولياء نواب عنه ومستمدون منه، وأقول‏:‏ إن السيد الشيخ عبد القادر قدس سره وغمرنا بره قد نال منا نال من القطبية بواسطة جده عليه الصلاة والسلام على أتم وجه وأكمل حال فقد كان رضي الله تعالى عنه من أجلة أهل البيت حسنياً من جهة الأب حسينيا من جهة الأم لم يصبه نقص لو أن وعسى وليت ولا ينكر ذلك إلا زنديق أو رافضي ينكر صحبة الصديق وأرى أن قوله رضي الله تعالى عنه‏:‏

أفلت شموس الأولين وشمسنا *** أبدا على فلك العلا لا تغرب

لا يدل على أن من ينال القطبية بعده من أهل البيت الذين عنصرهم وعنصره واحد نائب عنه ليس له فيض إلا منه بل غاية ما يدل عليه ويومىء إليه استمرار ظهور أمره وانتشار صيته وشهرة طريقته وعموم فيضه لمن استفاض على الوجه المعروف عند أهله من وذلك مما لا يكاد ينكر وأظهر من الشمس والقمر، هذا ما عندي في الكلام على الآية الكريمة المتضمنة لفضيلة لأهل البيت عظيمة، ويعلم منه وجه التعبير بيريد على صيغة المضارع ووجه تقديم إذهاب الرجس على التطهير ووجه دعائه صلى الله عليه وسلم لأهل الكساء بإذهاب الرجس من غير حاجة إلى القول بأن ذلك طلب للدوام كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَبِيراً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ‏}‏ وولا يورد عليه كثير مما يورد على غيره ومع هذا لمسلك الذهن اتساع ولا حجر على فضل الله عز وجل فلا مانع من أن يوفق أحداً لما هو أحسن من هذا وأجل فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك‏.‏